ذكرى رحيل عمار الشريعي.. الأعمى الذي أبصر بالموسيقى وكتب أنغامه على أوتار الوجدان

يتردد اسم عمار الشريعي كصدى نغم عذب، لم تُطفئ عتمة البصر وهج روحه، بل أشعلت في داخله نورًا أضاء دروب الإبداع لجيل كامل، وفي السادس عشر من أبريل، لا تأتي ذكرى ميلاده كسجل تاريخي، بل كموعد مع قصة إنسان تجاوز حدود الجسد ليحلق في فضاءات الفن، محولًا الألم إلى ألحان تلامس شغاف القلب.
لم يكن الشريعي مجرد موسيقي، بل كان حكّاءً يعزف على أوتار الوجدان، يروي قصصًا صامتة بلغة لا تحتاج إلى ترجمة، لغة الموسيقى التي تفهمها الروح مباشرة.
في هذه السطور، نسرد سيرة عمار الشريعي؛ الرجل الذي لم يُبصر النور بعينيه، لكنه رأى بوجدانه أكثر مما رآه المبصرون، وكتب موسيقاه على أوتار الحياة كأنها صلاةٌ أبدية لا تنقطع.

واليوم تحلّ الذكرى السابعة والسبعون لميلاد هذا العبقري الذي استطاع أن يعيد تعريف الموسيقى، لا كفنّ مجرد، بل كأداة بوحٍ إنساني، وشاهدٍ على الإرادة التي لا تُقهر. لم يكن عمار الشريعي ملحنًا عاديًا ولا موسيقارًا تقليديًا، بل كان حالةً فريدة من الانصهار بين الموهبة الفطرية والثقافة الواسعة، وبين التحدي الصامت والإبداع الصاخب.
لم يكن الضوء طريقه.. لكنه أضاء الطريق لغيره
فقد الشريعي بصره منذ الأيام الأولى في عمره، لكنّ الله وهبه ما هو أعمق: بصيرة تتجاوز الحواس، وقلبًا يستشعر نبض الأشياء ويحوّلها إلى موسيقى. لم يتعامل مع إعاقته كعقبة، بل جعل منها مدخله إلى عالم مختلف، عالم لا يُقاس بالبصر بل بالإحساس، لا يُدار بالرؤية بل بالبديهة، لا يُترجم بالكلمات بل بالألحان.
وحين كان الناس يرونه يضبط إعدادات التلفاز أو يتحرك بخفة وسط تفاصيل المكان، لم تكن دهشتهم سوى انعكاس لما تحمله شخصيته من أسرار استثنائية. كان قادرًا على رؤية ما لا يُرى، والاستماع لما لا يُقال، ليصوغ من ذلك كله نغمًا يلامس الروح مباشرة.

النشأة… جذور تُنبت الفن والفكر
ولد عمار الشريعي في محافظة المنيا عام 1948 لعائلة أرستقراطية وطنية، فجده مراد باشا الشريعي كان من كبار رجالات حزب الوفد ومن أبرز المقاومين للاحتلال الإنجليزي، بينما درس والده القانون في جامعة السوربون الفرنسية. بين هذا الإرث السياسي والثقافي، نشأ عمار محاطًا بروح نضالية وقيم فكرية رفيعة، تجلت لاحقًا في كل ما قدّمه من موسيقى حملت نبض الوطن، وهموم الناس، وشجن الإنسان.
لم تكن موسيقاه محض ألحان، بل كانت موقفًا، ولغة مقاومة، ورسالة أمل، وحكاية بوح. كانت تُغنّي للناس البسطاء، وتعبر عنهم، وتضمّد جراحهم، وتعيد رسم ملامح الأمل على وجوههم المتعبة.
حين تحدّث التتر.. وعزفت الموسيقى مشاعرنا
كان مسلسل “الأيام” نقطة التحوّل في مسيرة الشريعي الفنية. لم يكن مجرد عمل درامي عن عميد الأدب العربي طه حسين، بل كان منصة أعلن منها الشريعي عن ميلاد لغة موسيقية جديدة في الدراما التلفزيونية، حيث تحوّل التتر من مجرد مقدمة موسيقية إلى “وجدان ناطق” يحكي مشاعر العمل ويُمهّد لروحه.
غنّى علي الحجار أكثر من خمسين أغنية داخل هذا العمل وحده، كل واحدة منها كانت لبنة في بناء ما عُرف لاحقًا بـ”موسيقى التتر”، مدرسة جديدة خرجت من تحت عباءة الشريعي، وجعلت من اسمه مرادفًا للمشاعر الصادقة.

موسيقار لا يعرف الحدود.. وفنان اخترع آلتَه
لم يتوقف عمار عند التأليف والتلحين، بل خاض مجال التطوير الموسيقي التقني، حين أجرى تعديلات على آلة الأورج الشهيرة، وأدخل إليها النغمات الشرقية بالتعاون مع شركة يابانية مصنّعة، ليُسجّل بذلك بصمته العالمية. لم يكن مهتمًا بتكرار المعزوفات الغربية، بل سعى لأن تكون الموسيقى الشرقية حاضرة على خشبة المسارح العالمية بأصالتها وهويتها.
ومع مرور الوقت، بات اسمه مرتبطًا بكل ما هو مختلف ومبدع. كان يلحّن القصيدة كما لو كانت رواية، ويعزف الجملة الموسيقية كما لو كانت دمعة على وتر. مزج بين الشعر العامي والموسيقى، وخلق ثنائيات خالدة مع أسماء مثل عبدالرحمن الأبنودي، أحمد فؤاد نجم، وسيد حجاب، ليشكّل معهم مدرسةً امتدت من التتر إلى قلب الشارع المصري.
الإرادة التي عزفت.. والعزف الذي أصبح حياة
كان عمار الشريعي معلمًا وإن لم يحمل طباشير، كان ملهمًا وإن لم يخطب، كان رسولًا من نوع خاص، لم يأتِ بكتاب، بل جاء بأنغامٍ تُعلّم الإنسان كيف يسمع الحياة. لم يكن فنه إلا امتدادًا لروحه المضيئة التي قاومت كل ما حاول أن يطفئها.
وحتى بعد الرحيل، بقيت موسيقاه تُذاع على المحطات، وتُدرّس في الأكاديميات، وتُغنّى على المسارح، وتُهمَس في الآذان. بقيت موسيقاه شاهدة على أن النور ليس دائمًا في العين.. بل في القلب.
في ذكراه.. ما زالت موسيقاه تهمس لنا: الإرادة تصنع المعجزات
عمار الشريعي لم يكن مجرد سيرة فنية أو حياة نادرة، بل هو قصيدة أمل تتردّد كلما ضاق الأفق، وهو اللحن الذي يربت على أكتافنا حين نخاف، وهو الإجابة عن سؤال قديم: هل يستطيع الإنسان أن يصنع من ضعفه قوة؟ نعم.. إذا كان اسمه عمار الشريعي.