تقارير وتحليلات

رحيل آخر فرسان السينما الواقعية.. وفاة المخرج الكبير داوود عبد السيد عن عمر ناهز 79 عاماً

لم يكن داوود عبد السيد مخرجاً يكتفي بضبط زوايا الكاميرا وتوجيه الممثلين، بل كان فيلسوفاً يضبط إيقاع الوجود على شريط من “سيلولويد”؛ رحل المخرج الكبير داوود عبد السيد عن عمر ناهز التاسعة والسبعين، تاركاً خلفه “رسائل بحر” لا تنتهي، وأسئلة معلقة على جدران الذاكرة العربية.

إن رحيله ليس مجرد غياب لسينمائي محترف، بل هو إغلاق للكادر الأخير على سيرة رجل علّمنا أن السينما ليست حكاية تُروى لقتل الوقت، بل هي مرآةٌ صقيلة نرى فيها انعكاس أرواحنا الحائرة في عالم يزداد غموضاً.

بوفاته بعد صراع مع المرض، تنعي الثقافة العربية واحداً من أبرز من أعادوا تعريف العلاقة بين الصورة والفكرة. لقد حول داوود عبد السيد السينما من وسيلة للترفيه العابر إلى مساحة للتأمل الفلسفي، وجعل من “الكادر” السينمائي زنزانة تارة، وفضاءً للحرية تارة أخرى، باحثاً دوماً عن الجوهر الإنساني الكامن خلف أقنعة المجتمع والزيف.

وداع رسمي في حضرة المبدع في بيان يملؤه الأسى، نعى الدكتور أحمد فؤاد هنو، وزير الثقافة المصرية، المخرج الراحل، واصفاً إياه بـ”القامة الفنية الكبيرة والمبدع الاستثنائي”. وأكد الوزير أن السينما المصرية فقدت برحيله بوصلة فكرية كانت تهدي الأجيال نحو التنوير وبناء الوعي.

فلم يكن “عبد السيد” مجرد صانع أفلام، بل كان معمارياً بنى بصمته الهادئة صروحاً من القيم الفكرية والإنسانية، مشيراً إلى أن اسمه سيظل محفوراً في الذاكرة الثقافية، إذ استطاع بعبقرية نادرة أن يحول الهم الذاتي إلى تساؤل كوني، لتظل أفلامه شاهداً حياً على موهبة فريدة أثّرت في وجدان أجيال متعاقبة.

من جانبها، أعربت نقابة المهن التمثيلية عن خسارتها الفادحة، مشيرة إلى أن رحيله يمثل فجوة في جدار الفن السابع لا تُرمم بسهولة. وأكدت النقابة أن أعماله ستظل خالدة، ليس لجمالياتها البصرية فحسب، بل لصدقها وعمق رؤيتها التي جعلت من السينما المصرية والعربية علامة فارقة في المحافل الدولية.

سينما الوعي: حين تصبح الشخصية أيقونة ترك داوود عبد السيد رصيداً ليس ضخماً بالعدد، لكنه هائل بالتأثير. أفلامه لم تكن تُشاهد مرة واحدة، بل كانت تُقرأ ويُعاد اكتشافها. بدءاً من فيلمه الروائي الأول “الصعاليك” عام 1985، الذي قدم فيه قراءة مغايرة لمفهوم الصعود الاجتماعي، وصولاً إلى تحفته الخالدة “الكيت كات”.

في هذا الفيلم تحديداً، لم يكن الشيخ “حسني” مجرد رجل كفيف، بل كان رمزاً للبصيرة وسط عمى جماعي، واستطاع عبد السيد من خلاله أن يحول حارة “إمبابة” إلى مسرح كوني للبهجة والألم في آن واحد.

توالت أعماله لترسم خارطة طريق للسينما “الذهنية”؛ ففي “البحث عن سيد مرزوق” تاه المشاهد في دهاليز الرمزية، وفي “أرض الخوف” فكك المخرج مفهوم الهوية والواجب من خلال رحلة ضابط في أعماق عالم المخدرات.

أما في “سارق الفرح” و”أرض الأحلام” و”مواطن ومخبر وحرامي”، فقد غاص في النسيج الاجتماعي المصري بجرأة جراح، محللاً التحولات الطبقية والنفسية للشخصية المصرية.

ولعل “رسائل البحر” كان بمثابة القصيدة البصرية التي لخصت فلسفته في الحياة؛ حيث البحر هو المستودع الكبير للأسرار، والوحدة هي المصير الحتمي للإنسان الباحث عن ذاته. لم يكن داوود مخرجاً يطلب من جمهوره الاسترخاء، بل كان يطلب منهم المشاركة الوجدانية والتفكير، محولاً المشاهد من متلقٍ سلبي إلى شريك في بناء الحكاية.

من توثيق الأرض إلى فلسفة التجريب لم تكن هذه الرؤية العميقة وليدة الصدفة، فقد تشرب داوود عبد السيد أصول الحرفة من كبار السينما الواقعية. بدأ مسيرته كمساعد للمخرج العالمي يوسف شاهين في فيلم “الأرض”، وهو العمل الذي ربما زرع فيه عشق التفاصيل والارتباط بالهوية. كما عمل مع المخرج كمال الشيخ، رائد السينما البوليسية والنفسية، في “الرجل الذي فقد ظله”.

لكن نقطة التحول الحقيقية كانت في تجربته مع السينما التسجيلية في السبعينيات. أفلام مثل “وصية رجل حكيم في شؤون القرية والتعليم” و”عن الناس والأنبياء والفنانين” لم تكن مجرد توثيق، بل كانت مختبراً تجريبياً رصد فيه المخرج وجه مصر الحقيقي بعيداً عن صخب الاستوديوهات.

هذا الشغف بالواقع هو ما منحه القدرة لاحقاً على كتابة سيناريوهات أفلامه بنفسه، فجاءت حواراته محملة بشاعرية مقتصدة وفلسفة عميقة لا تخرج عن سياق الشخصية.

الرحيل الهادئ: ختام يليق بالحكماء في سنواته الأخيرة، وبسبب ظروفه الصحية، آثر المخرج الكبير الابتعاد عن صخب الوسط الفني. اختار “الاعتزال الهادئ”، مراقباً من شرفته البعيدة تحولات العالم والسينما. كان لديه مشروعات لم تكتمل، وأحلام لم تجد طريقها إلى الكاميرا، لكنه رحل بقناعة الزاهد الذي قدم ما يرضي ضميره الفني، دون أن يلهث خلف بريق الجوائز أو شباك التذاكر.

برحيل داوود عبد السيد، تنطوي صفحة ذهبية من تاريخ “سينما المثقفين”، لكن إرثه سيظل يطرح الأسئلة في كل مرة يُعرض فيها أحد أفلامه. لقد أثبت أن السينما يمكن أن تكون فناً للحياة والفكر معاً، وأن المبدع الحقيقي هو من يترك خلفه “قدرات غير عادية” من التأثير، تجعل رحيله مجرد انتقال من ضجيج الدنيا إلى خلود الذاكرة.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى