صوت خلدته السماء.. الذكرى الـ108 لميلاد الشيخ الحصري

تحل اليوم الأربعاء الذكرى الثامنة بعد المائة لميلاد علم من أعلام التلاوة في مصر والعالم العربي، الشيخ محمود خليل الحصري، الذي ارتبط صوته في وجدان أجيال كاملة بقدسية القرآن، فكان مرجعًا في الأداء وضبط أحكام التجويد، وإرثًا متجددًا يملأ المساجد ودور التحفيظ ويؤثر في النفوس حتى اليوم.
البداية من شبرا النملة
وُلد الشيخ محمود خليل الحصري في 17 سبتمبر 1917 بقرية شبرا النملة بمحافظة الغربية. التحق بالكتاب في سن الرابعة، وأتم حفظ القرآن الكريم وهو في الثامنة من عمره، ثم واصل دراسته بالمعهد الديني بطنطا وهو في الثانية عشرة، ليتخصص لاحقًا في القراءات العشر بالأزهر الشريف.
من طنطا إلى القاهرة
نال الحصري شهادة علم القراءات لجودة أدائه وعذوبة صوته، ما أهّله للتفرغ لدراسة علوم القرآن. تقدم لاختبارات الإذاعة المصرية عام 1944 وجاء ترتيبه الأول، وكان أول بث مباشر له في 16 نوفمبر من العام نفسه. وفي عام 1950 عُيّن قارئًا للمسجد الأحمدي بطنطا، ثم قارئًا لمسجد الإمام الحسين بالقاهرة عام 1955.
مبادرات سبقت عصرها
كان الشيخ الحصري أول من سجّل المصحف المرتل برواية حفص عن عاصم، كما كان أول من دعا لإنشاء نقابة لقراء القرآن الكريم تضمن حقوقهم وتكفل معيشتهم. نادى أيضًا بإنشاء مكاتب لتحفيظ القرآن في كل القرى والمدن، وأسّس بالفعل مسجدًا ومكتبًا للتحفيظ بالقاهرة.
أوليات لا تنتهي
كتب القدر للشيخ الحصري أن يكون الأول في كل شيء؛ فهو أول من أتم تسجيل القرآن بروايتي حفص وورش، وأول من اعتمدت إذاعة القرآن الكريم تلاوته، وأول من رفع الأذان ورتل القرآن في الأمم المتحدة عام 1977، وأول من قرأ في قصر الملك بلندن وفي البيت الأبيض والكونجرس الأمريكي. كما حصل على وسام العلوم والفنون من الطبقة الأولى عام 1967 من الرئيس جمال عبد الناصر.
سر لقب الحصري
روت ابنته ياسمين الخيام أن لقب “الحصري” جاء من جدها، الذي كان يفرش المساجد بالحصير حبًا في بيوت الله. وأشارت إلى رؤيا متكررة رآها الجد، فسّرها أحد العلماء بأنها رسالة لحفظ ابنه للقرآن، وهو ما تحقق في الشيخ الحصري الذي وهب حياته لكتاب الله.
التنافس بين العمالقة
كان عصر الحصري حافلًا بكبار القراء، لكنه ظل بينهم مثالًا في التواضع والإتقان. كان يقول دائمًا: “أنا خادم للقرآن”، فاختصه الله بأن حمل أول جمع صوتي كامل للمصحف المرتل، وأول من رتل في الحرمين الشريفين بعد تركيب مكبرات الصوت، وأول رئيس لرابطة قراء العالم.
التصدي لتحريف المصحف
في رحلة للكويت عام 1961 اكتشف الشيخ نسخًا محرّفة من المصحف الشريف، فتدخل سريعًا لمنع تداولها حتى تصل النسخ المعتمدة من الأزهر. ومن هذه الواقعة ولدت فكرة تسجيل المصحف المرتل، ليبقى مرجعًا موثوقًا لا تشوبه شائبة.
دور وطني وإنساني
لم يكن الشيخ الحصري بعيدًا عن قضايا وطنه، فقد وجّه رسائل عبر الإذاعة لتحفيز الجنود خلال حرب الاستنزاف، وحرص على مشاركة الأقباط تهنئتهم بالأعياد، مؤكدًا قيم التعايش والمحبة.
مؤلفات علمية خالدة
ترك الحصري عددًا من المؤلفات المميزة في علوم القرآن، منها “أحكام قراءة القرآن الكريم”، و”القراءات العشر من الشاطبية والدرة”، و”معالم الاهتداء إلى معرفة الوقف والابتداء”، و”الفتح الكبير في الاستعاذة والتكبير”، و”أحسن الأثر في تاريخ القراء الأربعة عشر”.
رحيل وبقاء
رحل الشيخ محمود خليل الحصري يوم الاثنين 24 نوفمبر 1980 عن عمر ناهز 63 عامًا، بعد أن أوصى بثلث تركته لخدمة القرآن الكريم وأهله. وبرحيله بقي صوته يصدح في قلوب الملايين، إرثًا خالدًا يذكّر الأجيال بأن القرآن لا يُحفظ إلا بالصدق والإخلاص.