صدمة استخباراتية في قلب أوروبا.. ترامب يقطع المعلومات عن أوكرانيا والناتو يبحث عن حل

في خطوة مفاجئة تحمل تداعيات استراتيجية عميقة، قرر الرئيس الأمريكي دونالد ترامب وقف تدفق المعلومات الاستخباراتية إلى أوكرانيا، مما يضع كييف في موقف معقد ويطرح تساؤلات جوهرية حول قدرة أوروبا على سد هذه الفجوة.
ومنذ اندلاع الحرب بين روسيا وأوكرانيا قبل ثلاث سنوات، شكل الدعم الاستخباراتي الأمريكي ركيزة أساسية في العمليات الدفاعية والهجومية الأوكرانية، حيث زودتها واشنطن بصور الأقمار الصناعية وإشارات الاتصالات وبيانات الاستهداف الدقيقة التي مكنتها من تنفيذ ضربات ناجحة ضد القوات الروسية.
ولكن مع التغيير المفاجئ في موقف الإدارة الأمريكية، تبدو كييف أمام تحدٍ غير مسبوق، حيث تجد نفسها محرومة من أكثر مصادر المعلومات الاستخباراتية تطورًا.
غياب واشنطن… ودور متوقع لحلفاء الناتو
مع تراجع الدور الأمريكي في دعم أوكرانيا استخباراتيًا، تتجه الأنظار إلى القوى الأوروبية الكبرى، وعلى رأسها بريطانيا وفرنسا وألمانيا، لتعويض النقص في المعلومات الحاسمة التي كانت توفرها واشنطن. إلا أن التساؤلات تظل قائمة حول مدى قدرة أجهزة الاستخبارات الأوروبية على سد هذه الفجوة، خاصة أن مجتمع الاستخبارات الأمريكي يعد الأضخم عالميًا، بموارد هائلة وقدرات تحليلية وتقنية متقدمة تتفوق بمراحل على نظيراتها الأوروبية.
وفي هذا السياق، نقلت صحيفة “بوليتيكو” عن مسؤول أوروبي مطلع على قدرات الحلفاء قوله: “لست متأكدًا من أن الدول الأوروبية قادرة حقًا على سد هذه الفجوة”، وهو ما يعكس حجم القلق السائد في الأوساط الأمنية الغربية بشأن مدى فاعلية البدائل الأوروبية لتعويض الانسحاب الأمريكي المفاجئ.
مؤسسة استخباراتية عملاقة في واشنطن يصعب استبدالها
يتألف مجتمع الاستخبارات الأمريكي من 18 وكالة استخباراتية فيدرالية تعمل بشكل مستقل ولكنها تتكامل فيما بينها لدعم الأمن القومي والسياسة الخارجية الأمريكية. وتشمل هذه المنظومة وكالات عسكرية تتبع وزارة الدفاع، إلى جانب أجهزة مدنية مستقلة ترتبط مباشرة بالرئيس، وكيانات أخرى متخصصة في تحليل المعلومات والعمليات الميدانية.
وبفضل هذه الشبكة الواسعة، تتمتع الولايات المتحدة بتفوق استثنائي في مجالات تحليل البيانات، وتكنولوجيا الأقمار الصناعية، وقدرات التجسس الإلكتروني، مما يمنحها قدرة غير مسبوقة على جمع المعلومات وتوجيه الضربات الدقيقة.
وتشير تقديرات إلى أن هذه المنظومة تضم حوالي 1271 منظمة حكومية و1931 شركة خاصة تعمل تحت مظلتها، وتنتشر في نحو 10 آلاف موقع داخل الولايات المتحدة وخارجها. كما يقدر عدد الموظفين الحاصلين على تصاريح أمنية عليا بأكثر من 854 ألف شخص، وهو عدد يفوق بمراحل أي مجتمع استخباراتي آخر حول العالم.
ونقلت “بوليتيكو” عن جيم تاونسند، نائب مساعد وزير الدفاع الأمريكي الأسبق لشؤون أوروبا وحلف الناتو، قوله: “الأمر يتعلق حقًا بالعدد… لدينا المزيد من المحللين والمزيد من الأنظمة المتطورة”، وهو ما يسلط الضوء على مدى صعوبة استبدال الولايات المتحدة كلاعب رئيسي في مجال تبادل المعلومات الاستخباراتية.
ارتباك في كييف بعد قطع الدعم الأمريكي
أحدث القرار الأمريكي ارتباكًا واسعًا في كييف، حيث كانت العلاقة الاستخباراتية بين البلدين قد تطورت بشكل كبير على مدار العقد الماضي. ومع توقف تبادل المعلومات، بدأ المسؤولون الأوكرانيون يشعرون بالقلق حيال التداعيات المحتملة على مجريات الحرب، خصوصًا فيما يتعلق بالقدرة على تتبع التحركات العسكرية الروسية والتصدي للهجمات الصاروخية.
وفي خطوة تعكس التأثير المباشر للقرار الأمريكي، قامت شركة Maxar Technologies، وهي إحدى أهم مزودي صور الأقمار الصناعية التجارية، بتقييد وصول أوكرانيا إلى خدماتها التي كانت تُستخدم في تحليل تضاريس ساحة المعركة وتحديد مواقع القوات الروسية. وأوضحت المتحدثة باسم الشركة، جيا دي هارت، أن الحكومة الأمريكية علقت وصول أوكرانيا إلى برنامج Global Enhanced GEOINT Delivery، وهو ما شكل ضربة قوية لقدرة كييف على جمع المعلومات الاستخباراتية بشكل مستقل.
ويؤكد ميكولا بيليسكوف، المحلل في المعهد الوطني للدراسات الاستراتيجية في أوكرانيا، أن “هناك الآن فجوة كبيرة في معرفتنا بما يحدث على الجانب الآخر من خط المواجهة”، مشيرًا إلى أن “المصادر المحلية قد تقدم بعض المعلومات، ولكن الاستخبارات الأمريكية كانت توفر بيانات دقيقة لا يمكن تعويضها بسهولة”.
وبالإضافة إلى فقدان البيانات حول تحركات القوات الروسية، تخشى أوكرانيا أيضًا من تراجع قدرتها على التصدي للهجمات الجوية، حيث تعتمد في الغالب على المعلومات الاستخباراتية الأمريكية للكشف المبكر عن الصواريخ الروسية الموجهة نحو مدنها.
هل تستطيع أوروبا تعويض الغياب الأمريكي؟
أمام هذا الواقع الجديد، بدأت بعض دول الناتو بمناقشة سبل تقديم دعم استخباراتي أكبر لأوكرانيا، لكن المسألة لا تخلو من تعقيدات سياسية وعملية. وبينما لم يتم حظر الحلفاء الأوروبيين من مشاركة بعض المعلومات مع كييف، فإن مستوى الدعم الذي يمكن تقديمه يظل محدودًا، لا سيما في ظل رغبة هذه الدول في تجنب إثارة غضب واشنطن أو تعريض علاقاتها الثنائية مع الولايات المتحدة للخطر.
وبحسب تقرير نشرته صحيفة “ديلي ميل” البريطانية، فقد طلبت واشنطن مؤخرًا من لندن وقف مشاركة بعض المعلومات الاستخباراتية الأمريكية مع أوكرانيا، وهو ما يشير إلى أن الولايات المتحدة لا تزال تسعى للسيطرة على تدفق البيانات حتى بعد إعلان قرارها الرسمي بوقف الدعم لكييف.
وفي المقابل، أكد وزير القوات المسلحة الفرنسي سيباستيان ليكورنو أن الاستخبارات الفرنسية “ذات سيادة”، وأن باريس ستواصل دعم أوكرانيا بالمعلومات المتاحة، دون الكشف عن طبيعة البيانات التي سيتم تبادلها.
إلى جانب ذلك، دعت ألمانيا إلى إنشاء شبكة استخبارات أوروبية مستقلة تكون قادرة على تأمين تبادل سريع وآمن للمعلومات بين دول القارة، حيث صرح كونستانتين فون نوتز، رئيس لجنة الرقابة على الاستخبارات في البرلمان الألماني، قائلاً: “نحن بحاجة إلى صيغة أوروبية جديدة للتعاون الاستخباراتي، يمكن أن نطلق عليها ’عيون اليورو‘ لضمان قدرة الدول الأوروبية على تبادل المعلومات بسرعة وأمان وفقًا لأسس قانونية واضحة”.
مستقبل الدعم الأوروبي لكييف في ظل المتغيرات الجديدة
مع استمرار الحرب دون بوادر حل قريب، يواجه حلفاء أوكرانيا في أوروبا معضلة حقيقية: هل يمكنهم تعويض الغياب الأمريكي في مجال الاستخبارات؟ وما مدى استعدادهم لتحمل تكلفة هذا الدور الجديد؟
في حين أن دولًا مثل بريطانيا وفرنسا تمتلك أجهزة استخباراتية متقدمة، إلا أن مستوى الدعم الذي يمكنها تقديمه يظل محدودًا مقارنة بالقدرات الأمريكية الهائلة. ومع تصاعد الضغوط السياسية داخل بعض الدول الأوروبية الداعية إلى تقليص التدخل في الأزمة الأوكرانية، قد يصبح من الصعب بناء شبكة استخباراتية قوية تحل محل الولايات المتحدة.
لكن الأكيد أن قرار واشنطن بقطع شريان المعلومات عن كييف قد يشكل نقطة تحول رئيسية في مسار الحرب، وربما يدفع أوروبا إلى إعادة النظر في استراتيجياتها الأمنية المستقبلية، سواء عبر تعزيز التعاون الاستخباراتي بين دول القارة أو البحث عن مصادر جديدة للمعلومات تعوض الفراغ الذي تركه الانسحاب الأمريكي.