تقارير وتحليلات

“ليو الرابع عشر”.. لماذا اختار أول بابا أمريكي هذا الاسم؟

في لحظة تُماثل ولادة عهد جديد، انطلقت من مدخنة كنيسة سيستينا في قلب الفاتيكان خيوط الدخان الأبيض، إيذانًا بانتخاب بابا جديد خلفًا للبابا الراحل فرنسيس. ولكن الأنظار لم تتجه فقط إلى شخصية البابا الجديد، بل إلى الاسم الذي اختاره لنفسه فور تقلّده المنصب: “ليو الرابع عشر”.

اختيار الاسم البابوي هو أول وأهم قرار يتخذه أي بابا جديد، وهو ليس مجرد اختيار رمزي، بل رسالة سياسية وروحية وثقافية تحمل ملامح توجه الحبر الأعظم الجديد. ففي كل مرة يُعلن فيها اسم بابوي جديد، يفتح الباب على مصراعيه لتحليلات تتقصى خلفيات الاسم المختار، وربطه بباباوات أو قديسين سابقين، والرسائل التي يريد البابا إرسالها من خلاله إلى داخل الكنيسة الكاثوليكية ومليار مؤمن حول العالم.

أول أمريكي على رأس الكنيسة.. ومن قلب شيكاغو إلى ساحة القديس بطرس
للمرة الأولى في تاريخ الكنيسة الذي يمتد لأكثر من ألفي عام، يُنتخب أمريكي لمنصب الحبر الأعظم. الكاردينال روبرت فرنسيس بريفوست، المولود عام 1955 في مدينة شيكاغو، اختير لقيادة الكنيسة الكاثوليكية خلفًا للبابا فرنسيس، بعد أن كان يشغل منصب رئيس دائرة الأساقفة في الفاتيكان، وأمضى سنوات طويلة في العمل الكنسي بأمريكا اللاتينية، خاصة في بيرو، حيث اشتهر بدعمه لقضايا العدالة الاجتماعية وتعليمه للقانون الكنسي.

لكن المفاجأة لم تكن فقط في جنسية البابا الجديد، بل في الاسم الذي اختاره: “ليو الرابع عشر”، في إشارة مباشرة إلى البابا ليو الثالث عشر، الذي شغل المنصب بين عامي 1878 و1903، وعُرف بمواقفه الجريئة من قضايا العمال، واعتُبر “بابا العدالة الاجتماعية” بامتياز.

"ليو الرابع عشر".. لماذا اختار أول بابا أمريكي هذا الاسم؟
البابا ليو الرابع عشر

اسم البابا.. ليس تفصيلاً بل إعلان نوايا
في الكنيسة الكاثوليكية، لا يُفرَض على البابا تغيير اسمه الأصلي، لكن تقليدًا غير مكتوب يسود منذ القرن السادس عشر، حيث يُنظر إلى اختيار اسم بابوي جديد كعلامة على التحول من الشخص العادي إلى “خليفة بطرس”، رأس الكنيسة وأب الروحي للكاثوليك في العالم. ومنذ عام 1555، لم يحتفظ أي بابا باسمه الأصلي سوى مارسيلوس الثاني.

وتُعدّ اللحظة التي يُطل فيها البابا على جموع المؤمنين من شرفة كاتدرائية القديس بطرس ليُعلن اسمه الجديد، من أكثر اللحظات رمزية في طقوس الفاتيكان. وقد جرت العادة أن يُعلن الكاردينال المكلف، باللاتينية: Habemus Papam (لدينا بابا)، متبوعًا باسم البابا الجديد.

لكن لماذا لم يختر اسمًا مثل “يوحنا” أو “فرنسيس الثاني”؟ وما دلالة العودة إلى اسم “ليو” تحديدًا؟

“ليو الرابع عشر”.. امتداد لإصلاح الكنيسة؟
يشير العديد من المراقبين إلى أن اختيار بريفوست لاسم “ليو الرابع عشر” هو بمثابة إعلان ضمني عن عزمه السير على نهج الإصلاحات التي بدأها البابا فرنسيس، والتأكيد على استمرارية الخط الاجتماعي الذي دافع عنه البابا ليو الثالث عشر.

فليو الثالث عشر يُعد من أبرز باباوات العصر الحديث، حيث أصدر عام 1891 الرسالة البابوية الشهيرة “Rerum Novarum” (الأوضاع الجديدة)، التي تُعد أول وثيقة بابوية تتناول أوضاع العمال وحقوقهم في مواجهة رأس المال، مما جعله يُلقّب بـ”أب التعليم الاجتماعي في الكنيسة”. وقد عُرف بانفتاحه على الحداثة، وتواصله مع العالم غير الكاثوليكي، وسعيه الدائم إلى المصالحة بين الإيمان والعقل.

وفي هذا السياق، يرى محللون أن البابا الجديد يسعى إلى ترسيخ مسار اجتماعي وإنساني، يتجاوز الطقوس الدينية نحو قضايا مثل العدالة الاجتماعية، والمهاجرين، والفقراء، وتغير المناخ، وهي قضايا كانت حاضرة بقوة في خطاب البابا فرنسيس، وستظل ضمن أولويات “ليو الرابع عشر”.

"ليو الرابع عشر".. لماذا اختار أول بابا أمريكي هذا الاسم؟
البابا ليو الرابع عشر

اسم محفوف بالتاريخ.. وخيارات لها دلالات
الاسم الذي يختاره البابا لا يأتي من فراغ. فكل اسم يرتبط بتاريخ وأحداث وشخصيات تؤثر في هوية الحبر الأعظم الجديد. ووفق التقاليد، يُفضل الكثير من الباباوات اختيار أسماء ارتبطت بشخصيات ذات تأثير كبير في تاريخ الكنيسة، سواء في المواقف العقائدية أو الاجتماعية أو السياسية.

ويستبعد دائمًا اسم “بطرس”، احترامًا لمكانة القديس بطرس، أول الحواريين، وأول بابا بحسب العقيدة الكاثوليكية، ولأن استخدام اسمه يُعتبر محاولة للتماثل معه، وهو ما لم يجرؤ عليه أحد منذ أكثر من 2000 عام.

هل نحن أمام بابا إصلاحي جديد؟
ما زال البابا الجديد لم يُدلِ بخطابه الأول، لكن اختياره لاسمه البابوي أرسل إشارات مبكرة وواضحة. فهو بذلك يربط بين اسمه وخط فكري واجتماعي محدد، ويحمل تراث ليو الثالث عشر إلى الحاضر، لربما ليؤكد أن الكنيسة الكاثوليكية في طريقها للاستمرار في الإصلاح والانفتاح، دون أن تفقد تقاليدها الروحية الراسخة.

وفي الوقت الذي تتجه فيه أنظار العالم إلى ساحة القديس بطرس، حيث جلس أول بابا أمريكي على الكرسي الرسولي، فإن العالم يترقّب كيف سيكتب “ليو الرابع عشر” فصله الخاص من تاريخ الكنيسة.. هل سيكون امتدادًا لفرانسيس؟ أم بداية لعهد جديد بطابع أمريكي لاتيني مشترك؟

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى