ماذا لو خرج من قبره ساعه!..(حكاوي علام )
الكاتب الصحفي عثمان علام يكتب ماذا لو خرج من قبره ساعه
الكاتب الصحفي /عثمان علام
مشكلتي مع الألوان أنني لا أعرف معظمها ، الألوان بالنسبة لي : أبيض-أسود-أحمر-أزرق-برتقالي…الخ .
ثقافة الألوان المتداولة لم أراها ولم اتعود عليها ولم يشرحها لي أحد ، هكذا نحن أبناء الريف ، كثيرةً هي الأشياء التي لم نعتادها ولم نراها في مجتمعاتنا ، حتى أنواع الأكل والموضة ولين المعاملة رغم طيبة القلوب .
اسألوا جيلي : هل تعرفون المكرونة البشمايل أو المحشيات بأنواعها ماعدا الكرنب ، أسألوهم: هل تعرفون جميع أشكال وأنواع الأكلات ، اسألوهم: هل تعرفون أشكال الموضة وأنواع الأحذية ، اسألوهم: عن تسريحة الشعر وأنواع الحلاقة ، أسألوهم عن كل ما يخص الحياة بشكل عام ، سيجيبون عليكم إجابة واحدة نعرفها جميعاً ، قد لا تكون موجودة في قاموس جيل اليوم .
كنا نأكل اللحم والفراخ والبط والأرانب والحمام ، كلها من مقتنيات المنزل ، الطبيخ يعني الملوخية والبامية والبطاطس و”التقلية”، حتى الأرز لم يكن فيما سبق مدرج ضمن قائمة الطعام ، الخبز البلدي موجود ، ربما لو كان هناك ضيف افرنجي جاء من البندر ، نقوم بطهي الأرز مع الأكل .
وحتى الآن ورغم مضي ثلاثون سنة على وجودي بالقاهرة العاصمة العامرة الساهرة الوالهة التي لا تنام، لا أحفظ أنواع الطعام ، فأنا لا أطلب وجبات من كنتاكي أو ماكدونالز أو هاردز أو غيرهم ، هم يسمون كل قطعة من الفرخة بإسم ، وكذلك السلطات والمقبلات ، كيف أحفظ هذه الأشياء أو اعرفها وأنا اصلاً من “يقرف”، من رائحة هذه الوجبات وليس تناولها .
صدقوني و حتى هذه اللحظة ، لا أعرف ما إذا كنت قد درست فى المناهج المدرسية ، الألوان واشكالها ، أو أن هناك معلم أو معلمة عرفوني الألوان جميعها ، نعم حفظت الألوان عندما كبرت على يد أولادي وزوجتي ، عرفت معنى الأسود والأبيض والازرق والأحمر والبرتقالي باللغة الانجليزية ، لكن حتى الآن لا أعرف تحديد لون معين ، ليس لأن عندي عمى ألوان ، لكن لأن عندي عدم دراية وعدم دراسة وربما عدم تربية في نظر البعض ، وكيف لي ذلك وأشياء كثيرة باتت عديدة ومتعددة وبلا طعم أو لون أو رائحة .
الحكاية عندي لديها ارتباط بأشياء كثيرة ، مثلاً لا أجالس أحد وأنا على خلاف ، لا انافق أحد طالما بيننا قطيعة ، لا أستطيع الإطراء على شيئ لا يعجبني ، لا أأكل طعاماً لا يروق لي ، لا أذهب إلى مكان أكرهه .
قوة الملاحظة عندي ضعيفة في أشياء كثيرة ، مثلاً لا استطيع أن اراقب تغيرات الجسد لدى البعض ، ولا تضاريس وجهه ولا ماذا فعل بعينيه ولا شفتيه ولا قدميه ، إذا جالست صديق وانصرف بعد ساعه لا يمكن أن اتذكر ماذا كان يرتدي ، التغيرات المنزلية عند الأقارب والأصدقاء لا استشعرها فى الغالب ، قد استشعر ذلك في بيتي فقط .
أما قصات الشعر ، فلا أعرف انواعها ، أنا كنت احلق شعري بطريقة منذ 45 عاماً ولازالت احلقها حتى الآن ، يصعب أن اقتنع أن الزمن قد تغير أو لماذا لا يقلدني أبنائي ، هم يحملون قصات الشعر على هواتفهم ويذهبون بها للحلاق وأنا لا أملك إلا شجب ذلك ، أنا كالجامعة العربية معهم ، أشجب-أدين-أندد-أسكت-أدفع-أنام .
حتى ترتيب الملابس ، الأمر جاء بالمصادفة ، فلم أطلع سابقاً على كتالوجات بيوت الموضة والأزياء ، وهكذا العطور ، لا أحفظ أنواعها ومصنعيها والبلاد المتقدمة فيها ، المهم عندي تكون الرائحة طيبة ، وليس كل ما يروق لي يروق لغيري ، تختلف الأذواق حتى لا تبور السلع .
الفطرة هي الوحيدة التي وجهتني كيف : ألبس وكيف أأكل وكيف أتحدث وكيف أصمت وكيف أسكن ، حتى السكن له قصة وحكاية .
حتماً جميعكم يعرف البيت الريفي ، لا تابلوهات معلقة ولا زخارف ولا مناظر ، الحائط لا يوجد عليه شيئ ، وصعب أن تصنع لنفسك عالماً خاص ، صعب أن يكون لك مكان مغلق تعلق عليه صور عبدالحليم وأم كلثوم وليلى علوى ، هذه ممنوعات ذرعها داخلنا الأستاذ رمضان مبروك أبو العلمين حموده ، هذا الأستاذ لم يعد موجوداً الآن ، فمن هو ذلك المدرس الذي يمسك بعصا ويضرب بها التلاميذ ؟، وللضرب فى المدارس قصة وحكاية .
كان الأستاذ صالح مدرس الرياضيات ، يستخدم عقاب “الطيارة”، وهو “التشعلق” بباب الفصل والضرب على الظهر والمؤخرة ، ولم يكن الأستاذ منصور مدرس العلوم ببعيد عنه ، وهكذا كانت المدرسة إقبال والمدرسة فاطمة ، كم من المرات قطعوا عروق أيدينا وكسروا عظامها .
العصا كانت من المقتنيات الهامة والمهمة للمدرسين ، كانت شيئ عزيز على النفس والقلب لديهم ، ومن لم يكن منهجه الضرب كان يقوم ب”القرص”، يغرس اظافره في ذراعك ويخرج بقطعة من اللحم أو يده ملطخةً بالدماء …يا لها من حياة قاسية ، نعم قاسية ، فلم تكن لديك رفاهية الشكوى ، مصيبة أن تذهب للبيت وتقول : أنني ضُربت من المدرس الفلاني ، هذا معناه أنك مقصر ، الأمر الذي يترتب عليه وصلة من الضرب المبرح ، وهذا معناه النوم من المغرب وعدم الخروج من المنزل ، وللخروج قصة وحكاية .
أبواب البيوت كان لها ترباس كبير وطويل ، يسهر رب البيت كيفما شاء ، وعند دخوله يتم غلق الباب بالترباس وكان الله في عونك إذا كنت بالخارج .
الناس قديماً كانوا ينامون بعد صلاة العشاء ، نظام حياتهم هكذا ، أنت شاب تريد أن تسهر وتغدو وتروح ، لكن لا أحد يسمح لك بذلك ، لو تأخرت بعد دخول والدك للمنزل ، فتحمل الشتيمة والسباب وربما الضرب المبرح ، قد تنقذك والدتك أو جدتك ، لكن ليس بالشكل الذي يوقف الشتائم على الأقل ، وقد يكون عقابك عدم تناول العشاء ، وللأكل قصة وحكاية .
كان الطعام يوضع مرة واحدة فى الغداء والعشاء ، وفي فصل الصيف فى الثلاث وجبات ، ومعنى وضع الطعام أن تكون مستيقظ وخالِ الذهن ، فلا تجلس قبل أن يجلس الكبير ، ولا تتأخر بعد جلوسه ، لا يمكن أن تتكلم ولا تتحرك وأنت تأكل ، الموجود أمامك تأكله لو كان فيه سُم قاتل ، حذاري أن تقول : مش جعان ، وحذاري أن تسبق الأكل وتقول جعان ، عدم جلوسك للأكل فى الموعد المحدد ، معناه حرمانك من الأكل حتى يحين وقت الوجبة التالية ، ويا سلام إذا كان حظك عثر ورفضت وجبة العشاء ، حتماً ستظل تتلوى حتى الصباح ، لا أحد سيجازف ويضع لك الطعام ، وتعاطف والدتك معك نوعاً من الخيانة أو المجازفة الغير محسوبة ، وقد تفقدك وتفقد أهل البيت عدم الراحة والنوم…وللنوم قصة وحكاية .
فى الصباح يستيقظ رب البيت ، ومعنى فراقه لفراشه أن يستيقظ كل البيت ، وإلا ستعلوا الأصوات وترتفع ، وخذ من الهباب ما شئت ، رب البيت عندما ينام ، ينام الجميع ، وعندما يستيقظ يستيقظ الجميع ، عندما يجوع لابد وأن الجميع جائع ، وعندما يمرض لابد وأن يمرض الكل ، وللمرض قصة وحكاية.
الحمد لله أن المناعة لدى الأطفال كانت قوية ، فلم نكن نمرض كثيراً ، وهذه نعمة من الله ، لأنه لم يكن أحد يعبئ بذلك ، كانوا لا يعترفون بدور البرد ولا الانفلوانزا ولا الحمى ولا شيئ ، يعترفون فقط عندما يرونك مقطع نصفين ، وقد يكون ذلك وبالاً عليك ، لأنك حتماً كنت السبب في تقطيعك لنصفين ، فلولا شقاوتك وسوء تصرفك لما حدث لك ما حدث …وللحوادث قصة .
في أحد المرات ذهبت لشراء بعض الحاجات لأمي رحمها الله ، كانت قد اشترت لي من مالها الخاص دراجة “عجلة يعني”، وضعت الأشياء أمامي ، لكن انحرفت الدراجة وسقطت فى الترعة التي تمر وسط القرية ، انقذني المارة واخرجوني ملطخ بالدماء والطين واسناني جميعها كُسرت ، وتركت أثر استمر ل25 عاما ، خرجت ولم أشعر بشيئ على الاطلاق ، كل ما كان يشغلني : كيف سيكون ردي عندما أعود للمنزل ! …في هذا اليوم خبأتني أمي عن أعين أبي وعمي ، وحاولت تخفيف وقع الألم عني ، لكن ظل تكسير اسناني علامة بارزة ، كذبت وقولت أنني ارتطمت بأحد الأبواب ، ولم اسلم من العقاب ، والحمد لله أنه كان عقاباً لفظياً وليس يدوياً .
الحياة المأسوية لم يكن أحد بعيد عنها ، ولم تكن مرتبطة بالفقر والغنى ، كان هذا منهج وأسلوب التربية فى الريف ، هو لم يعد موجوداً الآن ، كانوا يرون أنك ولدت كي تكون رجلاً صلباً قوياً تتحمل ثقيل الأحمال ، لا معنى للطفولة أبداً ولا معنى حتى للرحمة ، ربما هم أنفسهم لم يعيشوا ذلك ولم تتغير ظروفهم ليرون حياة الأخرين .
ما كان يخفف من هول ما نعيش ، رؤية المأساة الأشد التي يعيشها بعض اقراننا ، تقارن بين حياتك وحياتهم فتقول : أنا في نعمة والحمد لله ، لديك أب قاس لكنه يطعمك ويشتري لك الملبس وبنى لك بيت تقيم فيه ، وينفق عليك كي تتعلم ، نعم كل شيئ بحساب وبنظام وبقسوة وشدة ، لكن غيرك يحسدك على ما أنت فيه .
عندما كبرت ورأيت كيف يُعامل الأطفال ، اكتشفت أنني أريد أن أكون طفلاً ، وعندما وجدت معاملة المدرسين فى المدارس ، وددت لو رجعت تلميذاً ، وعندما أرى حنان الأب يتدفق على أبناءه ، وددت لو عاد أبي للحياة لأصرخ في وجهه وأنا مختبئ .
لكن عندما أرى التدني وصل لكل شيئ ، فلا تعليم ولا أدب ولا تربية ولا رجولة ولا تحمل مسئولية ولا قناعة ولا الحاجات تعجب أحد رغم كثرتها ، عندما أرى ذلك أريد أن يخرج أبي من قبره ولو لساعة ، فأشكره على ما فعل .
أما بالنسبة للألوان والموضة والأكلات والعطور وصور الطفولة ، فأنا احسها واستشعرها وأعيشها مع أولادي ، فكلما رُزق الواحد منهم ضحكة ، أفرح بها وكأني من ضحكها ، وكلما عرف الواحد منهم معلومة ، كأنني أنا الذي عرفتها ، حتى عندما يتزينون ويتهندمون ويخرجون في أبهى صورهم ، كأني أنا ذلك الطفل الذي ود لو سأل أمه: أحقاً إذا مر الزمن سنكبرُ ؟.
#حكاوي_علام #عثمان_علام