كوريا الجنوبية..العدالة بين الاختبار والمصير
أحمد فاضل
تواجه كوريا الجنوبية اختبارا وجوديا صعبا يتمثل في مدى قدرتها على حماية نظامها الديمقراطي من استغلال السلطة ومدى قوة مؤسسات القانون في تطبيق العدالة على الجميع، وذلك بعدما رفض الرئيس الموقوف عن العمل، يون سيوك يول، للمرة الثانية المثول أمام هيئة مكافحة الفساد للتحقيق بشأن إعلانه المثير للجدل للأحكام العرفية، هذا القرار، الذي يُعد واحدًا من أخطر القرارات السياسية، يُلقي بظلال ثقيلة على النظام القانوني الكوري ويثير تساؤلات مصيرية حول قدرة الديمقراطية على مواجهة استبداد السلطة.
فقرار إعلان الأحكام العرفية الذي استخدمه يون سيوك وحاول فرضه بالقوة هو أحد أخطر الأسلحة التي تُستخدم في أوقات الأزمات، ولكنه يصبح خنجرًا في قلب الديمقراطية إذا استُغل لتقويض الحريات وتعليق الدستور، ويُشكل هذا القرار محور الأزمة الحالية، إذ يرى كثيرون أنه لم يكن له مبرر قانوني، بل كان استغلالًا للسلطة بهدف فرض السيطرة.
تاريخيًا، العالم مليء بالأمثلة التي تُبرز الوجه القبيح للأحكام العرفية عندما تتحول إلى أداة قمع واستبداد، ففي تشيلي، حكم الجنرال أوغستو بينوشيه البلاد بقبضة من حديد بين عامي 1973 و1989 تحت مظلة الأحكام العرفية، لكنه واجه نهاية غير متوقعة عندما خسره الشعب في استفتاء على تمديد حكمه، استفتاء وافق بينوشيه على إجرائه ظنًا منه أن النصر حليفه، وجاءت النتيجة بعكس توقعاته، ليُخلع من السلطة في مشهد تاريخي أكد أن الشعوب لا تُهزم مهما بلغ استبداد الحاكم.
لكن رفض يون سيوك يول التعاون مع هيئة مكافحة الفساد يُعد ضربة مزدوجة: أولًا للعدالة، وثانيًا لثقة الشعب الكوري في نظامه القانوني، هذا الشعب الذي خاض معارك طويلة من أجل الديمقراطية، يجد نفسه اليوم أمام تساؤل وجودي: هل ستبقى كوريا الجنوبية دولة يحكمها القانون، وتظل درة الديمقراطية في العالم؟ أم أن هذه اللحظة ستكون بداية النهاية؟
لمواجهة هذا الوضع يجب اتخاذ خطوات حاسمة لإعادة الثقة في النظام الديمقراطي أولا: فرض القانون على الجميع دون استثناء
ورفض الرئيس المثول أمام التحقيقات لا يجب أن يمر دون عواقب قانونية، فتطبيق القانون على الجميع بلا استثناء هو الرسالة الوحيدة التي تُعيد للعدالة هيبتها.
ثانيا: تعزيز استقلالية التحقيقات
ويجب أن تُدار التحقيقات بعيدًا عن أي تدخلات سياسية لضمان الوصول إلى الحقيقة كاملة، الاستقلالية هي السلاح الأقوى ضد التشويه أو التلاعب.
ثالثا: الشفافية المطلقة فالشعب الكوري له الحق في معرفة كل التفاصيل المتعلقة بهذه القضية، والشفافية ليست خيارًا، بل واجب لضمان بقاء الثقة بين الشعب والمؤسسات.
رابعا: محاسبة صارمة ورادعة
إذا ثبت أن إعلان الأحكام العرفية كان تجاوزًا قانونيًا، فيجب أن تكون العقوبات صارمة ورادعة، لضمان عدم تكرار هذا المشهد في المستقبل.
الديمقراطية في معركة وجودية
كوريا الجنوبية ليست غريبة عن المعارك الكبرى، من النضال ضد الديكتاتورية في الثمانينيات إلى الإطاحة برؤساء فاسدين، أثبت الشعب الكوري مرارًا أن الديمقراطية ليست مجرد نظام سياسي، بل هي شريان حياة الأمة.
لكن هذه الأزمة ليست كغيرها، إنها معركة وجودية تُحدد مستقبل الديمقراطية في كوريا الجنوبية إذا تمكنت المؤسسات من التعامل بحزم وشفافية مع هذه القضية، فإنها لن تُثبت فقط قوة النظام، بل ستُعيد صياغة مفهوم العدالة في كوريا الجنوبية، أما إذا فشلت، فإن الباب سيُفتح أمام موجة جديدة من الاستبداد، ما يُهدد إنجازات عقود من النضال الديمقراطي.
أزمة كوريا الجنوبية تحمل في طياتها رسالة أكبر للعالم: العدالة ليست مجرد نصوص قانونية، بل هي قوة حقيقية تُعيد التوازن حين تختل الموازين فعندما ينتصر القانون على السلطة، تزدهر الشعوب، وحينما تُحاسب القيادة مهما بلغ نفوذها، تتجدد الثقة في الديمقراطية، كوريا الجنوبية، بعبورها هذا الاختبار الصعب، ستؤكد للعالم أن الشعوب، مهما كانت التحديات، قادرة على الحفاظ على حقوقها وإعلاء راية العدالة.
في النهاية تؤكد هذه الأزمة أن العدالة ليست مجرد شعار، بل هي نبض الحياة لأي أمة، وأن ما يحدث في كوريا الجنوبية ليس شأنًا داخليًا فقط، بل رسالة عالمية بأن العدالة هي السلاح الأقوى في مواجهة استغلال السلطة، وأن الشعوب الحرة لا تُهزم، والديمقراطية الحقيقية تُثبت قوتها عندما تُحاسب الأقوياء قبل الضعفاء.