فنون وثقافة

عطر المطارح… رائد عبدالسلام

اسمُها سِتِّي "حياة" ..كانت في عمر جدَّتي تقريباً بل تُشبهها تِـمَّاماً وكأنهما شقيقتان !!

نذهب لزيارتها قبل أن يهلَّ رمضان وفي مداخل الأعياد ويوم المولد الشريف ونجلس في شرفتها لنرى الزفَّة ..ولم أكن أعرفُ صلةَ القرابة التي تجمعنا بها غير أن جدَّتي كلما ذَهَبَت لزيارتها أخذتني معها .
نعبرُ الجسرَ الكبير فنصل إلى المدينة ثم نجتاز الميدان ونميل يساراً فنجد فتحةً بين الدكاكين لا تُنبأ أبداً أن بعدها حارةً ساحرة كهذه التي تعجُّ بالأُنس وفَوْرة الحياة .
ما إن تخطو داخلها إلا وتخرج من زمنك وكأنك تسيرُ في حدوتةٍ قديمة ،يُشعرك بها وَنَسُ الوجوه ومُداعبات نسوةٍ شاباتٍ يغسلن ثياباً في مداخل البيوت وقد شمَّرن عن سيقان بضَّةٍ مُضيئة ،والصمتُ الذي يكسو العجائز اللواتي يجلسن على العتبات يبعن حلوى رخيصة وسرسعات الأطفال الذين يرتدون البيجامات الكستور ..
البيوت متلاصقةٌ ..حتى أن الجارَ يستأذن جاره قبل أن يفتح نافذته بل أنه قد يسمعُ النداءات الحميمة في بعض الليالي !!
ما زال صليلُ أساور ستي “حياة” عالقاً في ذهني وهي تجلس قُبالتنا على كنبة بلدية كبيرة تداعبُ عِدَّة القهوة داخل صينية نحاسية لامعة ،وحين سألتها : هل هذا ذهبٌ ؟!
ضَحِكَتْ عن أسنانٍ ذهبية أيضاً وهي تهزُّ كتفيَّ لترقِّصني بينما تغني :
” قالوا الدهب في الإيد
لو حتى كان عناقيد
ما يشفي قلب انكوى
سافر وليفُه بعيد .. ”
ثم تأخذني في حضنها فأغرقُ في رائحة عطر الياسمين الذي كان يُميِّزها ،فقد كانت شديدة الاعتناء بنفسها رغم أنني لم أرَ لها زوجاً أو أولاداً ،ودائماً ما تضحك لدهشتي حين أراها تدخن السجائر !!
ظلَّ الشلن الورقيُّ الجديد هو أثمنُ هداياها ..تُعطيني إياه في كلَّ مرةٍ فأشتري به مجلة “ميكي” قبل عودتنا ،فبلدتنا لم يكن بها باعة جرائد ومجلات .
في طريق العودة ونحن ننتظر البائعَ الذي يملأ لنا قرطاساً ضخماً من الفول السوداني قالت لي :
سِتَّك “حياة” أغلى من أختي ..
هَدَمَت بيتها العامر بسببي !!
الخِلِّ الوفي زي الغَطَا في برد طوبة ..فاضل بأة اشتريلك “شيرز” صوف من عند الطرابيشي وع البيت طوّالي يا بطل !!
بكت جدتي كثيراً عند وفاة صاحبتها وحكت لي بعد ذلك :
عند زواجي من جدِّك كنتُ صبيةً دون السِّن الذي حددته الحكومة للزواج – كان ذلك أيام حُكم الملك – ولكن “حياة” صاحِبَتي التي تكبُرني بثلاثةِ أعوامٍ ذَهَبَتْ مع أمي سرَّاً ودَخَلَتْ لطبيب الصحة عند “التسنين” بدلاً مني ،ولكنها قضت بعد ذلك شهراً في الحبس عقوبة على التزوير ..وذلك بعد أن اشتكتها إحدى الجارات من ذوات الكيد !!
قبل أن ينتهي الشهر طلَّقَها زوجُها العطَّار الميسور ..لتعيشَ عمرَها في بيت أبيها وحيدةً ،ولم يطلبها بعدها خاطبٌ ..وهي الجميلةُ البهيَّة ..ابنةُ التاجر !!

“رائد”

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى