“سلامة موسى” رائد التنوير أم الانتهازي.. جدل فكري وسياسي في مسيرة مفكر مصري

كتبت/ هالة الدكروري
يعد سلامة موسى من أبرز الكتاب والمفكرين المصريين الذين أثاروا الجدل بأفكارهم وآرائهم التي انقسمت حولها الأوساط الثقافية بين مؤيد ومعارض.
وُلد في عام 1887 بمحافظة الشرقية ونشأ في بيئة قبطية، حيث تلقى تعليمه الأولي في مدرسة قبطية، ثم حصل على الشهادة الابتدائية من المدرسة الابتدائية بالزقازيق، وبعدها التحق بالمدرسة التوفيقية، ثم المدرسة الخديوية بالقاهرة، لينال شهادة البكالوريا (الثانوية) عام 1903.
بعدها، شد الرحال إلى فرنسا ثم إنجلترا بهدف دراسة الحقوق، لكنه لم يوفق في الحصول على الشهادة الجامعية، واكتفى بالتأثر بأفكار الكتاب الغربيين، مثل فولتير وكارل ماركس، كما التقى بالمؤلف المسرحي الإيرلندي جورج برنارد شو، الذي ترك بصمة واضحة على أفكاره.
كانت مشكلة سلامة موسى، شأنه شأن بعض أبناء جيله، هي السعي إلى تحقيق مكانة بارزة في المشهد الثقافي دون استكمال دراسة أكاديمية متخصصة، ما دفعه إلى تبني أفكار جاهزة من الغرب والترويج لها، بدلاً من الانخراط في عملية بحثية أصيلة تساهم في تطوير الفكر العربي من منطلقاته الأصيلة.
انقسمت مسيرته بين تبني الأفكار الاشتراكية والدعوة إلى التحرر الفكري، وبين ممارسة دور سياسي خفي لم يكن متوقعًا من رجل عرف عنه الترويج لقيم التقدم والحداثة.
شغل سلامة موسى منصب رئيس تحرير مجلة “الهلال” بين عامي 1924 و1929، كما رأس تحرير مجلة “كل شيء” التي كانت تصدرها دار الهلال. غير أن المفاجأة الكبرى كانت في اكتشاف تورطه في كتابة تقارير سرية لجهات أمنية عن مكان عمله الصحفي، ما أثار ضجة كبرى حين نُشرت تفاصيل هذه التقارير في الصحف والمجلات المصرية آنذاك.
أدى ذلك إلى فصله من دار الهلال في أكتوبر 1929، فحاول تصوير نفسه كضحية لهجوم من أصحاب الصحف الشامية الذين كانوا يشكلون جزءًا كبيرًا من النخبة الإعلامية في مصر آنذاك.
وفي هذا السياق، أرسل سلامة موسى خطابًا إلى الصحفي حسين شفيق المصري، رئيس تحرير مجلة “كل شيء والعالم”، يطلب منه تزوير خطاب على لسان كاتب سوري يهاجمه بغرض إثارة الرأي العام ضد “الشوام”، لكنه قوبل برفض قاطع، حيث رد حسين شفيق المصري بقوله: “كان يريدني أن أزور خطابًا، وأن أفتري على أمة، وأن أنزل إلى الدرك الأسفل من النذالة بالكيد لقوم ليس بيني وبينهم غير الصداقة والمودة.. هذا اللعب من لعب الصبيان فعجيب أن يكون منه، وهو ينادي بأنه فيلسوف من علماء النفس، أغفر كل شيء إلا أن يظن بي ما ظن من الجهل والحمق”.
لم يتوقف الأمر عند حدود الوشاية بصحيفته، بل امتد إلى لعب دور سياسي أكثر خطورة. ففي عام 1929، حينما عرض وزير الخارجية البريطاني آرثر هندرسون مشروعًا للتفاوض مع مصر حول الجلاء، أبدى سلامة موسى استعداده لخدمة الحكومة عبر محاولة شق صفوف الأقباط الموالين لحزب الوفد وجذبهم إلى جانب وزارة محمد محمود باشا، التي كانت تتبنى موقفًا متساهلًا مع الاحتلال البريطاني.
ففي خطاب بعث به إلى وكيل وزارة الداخلية، عرض موسى إصدار جريدة قبطية تكون مهمتها دعم المفاوضات مع البريطانيين، قائلاً: “تعرفون سعادتكم أن عددًا كبيرًا من الأقباط يلتف حول الوفد، ولهذا العدد تأثير كبير في الانتخابات وقبول المعاهدة أو رفضها.. وقد كنت منذ أشهر طلبت الترخيص لي بإصدار جريدة يومية باسم ‘الدنيا’ لكي أخدم الحكومة في الدعوة لها بين الأقباط.. ولكني لم أظفر للآن بهذا الترخيص، والآن ومشروع المعاهدة أمام الأمة، أظن أنه من مصلحة الوطن أن يكون الأقباط في صف الداعين إليها. وإني اعتقد أني على شيء من القيمة الأدبية بين الأقباط، وأنهم يحسنون الظن بي.. ثم إني اعتقد أن مصلحة الأمة كلها تقتضي قبول المعاهدة”.
لكن محاولاته باءت بالفشل، وسرعان ما انكشفت تحركاته، فوجد نفسه معزولًا عن التيار الوطني الذي كان يقود المقاومة ضد الاحتلال. وقد عُدّت هذه الواقعة دليلًا على ازدواجية مواقفه، حيث كان يقدم نفسه كمناضل فكري من أجل التقدم والنهضة، بينما كان في الواقع يسعى للحصول على امتيازات سياسية عبر التودد للسلطة.
في كتابه “تربية سلامة موسى”، تحدث موسى عن بداية معرفته بمؤسس “الهلال”، جرجي زيدان، قائلًا: “عرفت جرجي زيدان مؤسس ‘الهلال’ قبل أن يموت بسنتين أو ثلاث، بل عرفته منذ 1909، حين كنت بإنجلترا، وكنت قد ألفت رسالة ‘مقدمة السوبرمان’، وبعثت بها إلى مطبعة الهلال كي تُطبع، فأحالتها المطبعة إليه ليقرأها، وبعث هو إليَّ بخطاب مسهب يشرح لي فيه وجوه النقد التي يأخذها على الرسالة، ويقترح حذف بعض الفصول والسطور مما عده مخالفًا للعقيدة العامة.
وأذكر من خطابه هذا قوله: ‘إنه لا بأس بأن ننتقد المسيحية؛ لأن المسيحيين قد ألفوا نقد ديانتهم، أما المسلمون فيجب أن نتوقاهم؛ لأنهم لم يألفوا النقد’. وقد خرجت هذه الرسالة مشوهة مبتورة لكثرة ما حُذف منها”.
لقد ظل سلامة موسى شخصية إشكالية في التاريخ الثقافي المصري، فبينما كان يدعو إلى أفكار التقدم والعقلانية، إلا أن مسيرته شهدت تناقضات حادة، سواء في ولائه السياسي أو في تحركاته الفكرية التي كانت تفتقر إلى التماسك. وبينما احتفى به البعض كأحد رموز التنوير، رأى فيه آخرون نموذجًا للانتهازية الفكرية التي لا تتورع عن التحول وفقًا للظروف والمتغيرات السياسية.
وكان سلامة موسى من أوائل المفكرين الذين تبنوا أفكارًا تقدمية، لا سيما فيما يتعلق بالدين والمجتمع، لكنه في بعض شؤونه كان يخالف أفكاره، فقد دعا إلى تحديد النسل، لكنه أنجب العديد من الأبناء، كما تبنى آراء غير منطقية حول ضرورة زواج الشباب المصريين من أجانب لتجديد وتحسين النسل، وهو طرح أثار الكثير من الانتقادات، خاصة في ظل سياق اجتماعي وثقافي محافظ. كذلك، كان من أشد المناهضين للثقافة العربية والإسلامية، ودعا إلى استبدالها بالثقافة الأوروبية، ما جعله في مرمى الانتقادات من قِبَل التيارات الفكرية المختلفة.
وفي النهاية، يبقى سلامة موسى أحد أكثر المفكرين إثارة للجدل في القرن العشرين، حيث كان رمزًا لصراع الحداثة والتقليد، وتباينت حوله المواقف بين الإعجاب الشديد والرفض القاطع، ليظل اسمه محفورًا في تاريخ الفكر العربي كشخصية جدلية أثرت المشهد الثقافي لكنها لم تستطع حسم الجدل حولها حتى يومنا هذا.