سياحة و سفر

سرقة أم تذكار؟ الجدل المستمر حول هوارد كارتر ومقبرة توت عنخ آمون

لم يكن اكتشاف مقبرة الملك توت عنخ آمون مجرد حدث أثري، بل كان لحظة فارقة أعادت تشكيل علاقة العالم بالحضارة المصرية القديمة. غير أن هذا الحدث العظيم ظلّ مُحاطًا بشبهات كثيرة، لعلّ أبرزها السؤال الذي لم يخفت صداه منذ قرن:هل قام هوارد كارتر – مكتشف المقبرة – بسرقة بعض مقتنياتها؟.

لقد تحوّل هذا السؤال من مجرّد روايات متداولة إلى موضوع بحث علمي موثّق، خاصة بعد ظهور رسائل جديدة خلال القرن الحالي تُدين كارتر بوضوح. وإلى جانب الجانب الجنائي والأخلاقي، برز اسم مصري مهم في هذه القصة: مرقص باشا سميكة، مؤسس المتحف القبطي، والقيادي الوطني الذي لعب دورًا بارزًا في حماية آثار المقبرة من العبث.

 

 

في هذا المقال الموسّع، نعرض القصة كاملة: التفاصيل، الوثائق، الاتهامات، الدفاعات، توقّف كارتر عن العمل، والدور الوطني لمرقص سميكة باشا في هذه القضية.

أولًا: الاكتشاف الأعظم … وبداية الشكوك

في 4 نوفمبر 1922م نجح كارتر في العثور على مدخل مقبرة غير معروفة، اكتمل اكتشافها في 26 نوفمبر حين فُتح باب الحجرة الخارجية، ثم في فبراير 1923م عند فتح غرفة الدفن بكل ما تحمله من ذهب وتمائم وتماثيل، لكن منذ الأيام الأولى، ظهرت سلوكيات مثيرة للقلق:

1. دخول المقبرة قبل حضور المفتشين المصريين: كان كارتر يدخل المقبرة ليلًا ونهارًا دون تسجيل حضور رسمي، وأحيانًا قبل وصول مفتش الآثار المصري سامي جبرة أو رئيس العمال المحليين حسن عبد الرسول (من عائلة عبد الرسول الشهيرة في البر الغربي بالأقصر)، وهي العائلة التي عملت طويلًا مع بعثات التنقيب منذ القرن التاسع عشر..هذا أثار شكوكًا مبكرة في أنه يتصرّف داخل المقبرة دون رقابة.
2. آثار صغيرة بدأت تظهر خارج التسلسل الرسمي: بعد سنوات قليلة من الاكتشاف، ظهرت قطع صغيرة من تمائم وخرز وجعارين في مجموعات خاصة أوروبية، ما أعاد فتح ملف السرقة.

 

 

3. رسائل أعضاء البعثة: بعض أعضاء الفريق – مثل ألفريد لوكاس – لم يكونوا مرتاحين لبعض ممارسات كارتر، وكتبوا رسائل بعدها بسنوات تفضح جزءًا من تلك المخالفات. ألفريد لوكاس (Alfred Lucas؛ 27 أغسطس 1867م- 9 ديسمبر 1945) كان عالم كيمياء تحليلية وعالم آثار إنجليزي. اشتهر بعمله مع هوارد كارتر في مقبرة توت عنخ آمون، حيث حلل وحفظ العديد من القطع المكتشفة، وكان رائدًا في مجالي الحفاظ على القطع الأثرية وعلوم الطب الشرعي.

ثانيًا: الوثيقة التي غيّرت القصة تمامًا

في عام 2022م (بعد مرور 100 عام على الاكتشاف)، نشرت مجموعات أرشيفية رسائل شخصية لـ ألـفريد لوكاس، الكيميائي الشهير وعضو فريق كارتر.إحدى الرسائل تضمّنت تصريحًا صادمًا:
“كارتر فتح المقبرة سرًا قبل وصول السلطات، وأخذ بعض الأشياء منها.”
وهذه ليست شهادة بعد الحادث بسنوات طويلة، بل رسالة معاصرة للفترة(1923-1924م). هذه الرسالة وحدها كافية لإعادة قراءة تاريخ الاكتشاف.

ثالثًا: الأدلة التي ترجّح حدوث سرقة فعلية

1. رسالة آلان جاردينر: عالم المصريات آلان جاردينر كتب في 1934م رسالة غاضبة إلى كارتر، جاء فيها أنه اكتشف أن التميمة التي أهداها له كارتر وادعى أنها “ليست من المقبرة” ثبت علميًا أنها من مقبرة توت عنخ آمون.وهذا دليل مباشر على أن كارتر احتفظ بقطع.

2. قطع أعيدت إلى مصر لاحقًا: خلال الفترة 1960م–2022م، أعيدت عدة قطع صغيرة إلى مصر، منها:خرز ذهبي – تمائم صغيرة – شرائط ذهبية – أجزاء من الزينة الملكية، وتشترك في صفة واحدة:خرجت بطريقة غير شرعية وغالبًا من محيط كارتر أو أسرته أو المعاونين المقربين منه.

 

 

3. مذكرات لورد كارنارفون: ممول البعثة كتب عن “تصرفات فردية غير محسوبة” لكارتر..

رابعًا: لماذا تم إيقاف هوارد كارتر عن العمل؟

القضية التي يُخفيها كثير من المؤرخين:في فبراير 1924م، وقع صدام كبير بين كارتر والسلطات المصرية.السبب الظاهري كان منع دخول “فرد من أسرته” إلى المقبرة، لكن الحقيقة كانت أكبر بكثير.

الأسباب الحقيقية للإيقاف

1. فتح مقصورة الدفن دون إذن رسمي: كارتر قرر فتح المقصورة الذهبية الداخلية قبل حضور اللجنة المصرية العليا للآثار، في خرق واضح للوائح.

2. مخالفات تتعلق بتسجيل الموجودات: سُجلت بعض القطع بطريقة غير دقيقة، وهناك “قطع صغيرة” لم يتم تسجيلها إلا بعد اعتراض من المفتشين.

3. المعاملة المتعالية تجاه المسؤولين المصريين: كارتر كتب خطابًا شديد اللهجة ضد الحكومة المصرية بعد الثورة (1919) متهمًا المسؤولين بالجهل.اعتُبرت هذه الإهانة سببًا سياسيًا مباشرًا لإيقافه.

4. اعتراض مرقص باشا سميكة ومفتشي الآثار المصريين: وهذه نقطة مهمة جدًا.

خامسًا: مرقص باشا سميكة.. الوطني الذي وقف أمام كارتر

 

 

لا يمكن كتابة تاريخ مقبرة توت عنخ آمون دون ذكر مرقص باشا سميكة(1867–1944)، مؤسس المتحف القبطي وأحد أهم رجال حماية الآثار في النصف الأول من القرن العشرين.

ما هو دوره في قضية كارتر؟

1. كان عضوًا في لجنة الإشراف على أعمال التنقيب: وكان من أشدّ المؤيّدين لحق مصر في الإشراف الكامل على آثار المقبرة.

2. اعترض على فتح غرفة الدفن: عندما علم بأن كارتر فتح حجرة الدفن في غياب المفتشين، سجّل اعتراضًا رسميًا داخل لجنة العليا للآثار.

3. اتهم كارتر بالمماطلة وإخفاء المعلومات: مرقص باشا كان من أوائل من تحدّثوا في محاضر رسمية عن:فتحات غير قانونية – غياب الإشراف المصري – احتمال خروج قطع صغيرة دون توثيق

4. دوره في قرار الإيقاف: تشير محاضر وزارة الأشغال إلى أن توقيف كارتر كان نتيجة مباشرة لتوصيات لجنة الآثار المصرية، التي كان مرقص باشا أحد أهم أعضائها.

5. حماية المحتويات بعد الإيقاف: عندما مُنع كارتر من دخول المقبرة(1924م)، أشرف مرقص باشا بنفسه على:جرد محتويات المقبرة – إغلاقها بالشمع – كتابة محاضر تسليم رسمية – مراقبة باب المقبرة حتى عودته للعمل بعد عام كامل.

6. مذكراته ورسائله: كتب مرقص باشا في إحدى رسائله:

“إن ما تم داخل المقبرة لم يكن مقبولًا، وكان لزامًا أن تتولى الحكومة المصرية الأمر حفاظًا على تراث البلاد.”

سادسًا: هل كانت سرقة منظمة؟ أم “أخطاء فردية”؟

1. يجب هنا التفريق بين ثلاثة مستويات:لم تختفِ أي قطعة كبيرة أو ضخمة من المقبرة. هذا شبه مؤكد؛ فالقطع الضخمة مرقّمة ومسجّلة.

2. هناك فقدان أو تهريب لقطع صغيرة جدًا، مثل:خرز–تمائم – أجزاء زخرفية – أوشحة ذهبية قصيرة. وهذه هي التي ظهرت لاحقًا.

 

 

3. السلوك كان أقرب إلى “أخذ تذكارات”: فترة الاستعمار كانت تسمح – بحكم العادة – بأن يأخذ المنقب بعض القطع “تفضّلًا”، رغم أن ذلك كان مخالفًا للقانون المصري الجديد.

سابعًا: دفاع كارتر وأنصاره

يعتمد المدافعون عنه على:

1. أنه لم يبع أي قطعة: لم يظهر دليل واحد أنه باع أثراً من آثار المقبرة.

2. القطع المستردة صغيرة جدًا: يقولون إنها “هدايا” وليست عملية سرقة.

3. هو من أنقذ المقبرة أصلًا من اللصوص: تم العثور على باب المقبرة وقد تم العبث به قبل اكتشافها.

لكن هذا الدفاع لا يلغي حقيقة:أنه فتح المقبرة سرًا، وأن قطعًا خرجت فعليًا، وأن المفتشين المصريين اعترضوا بشدة.

ثامنًا: من المسؤول الحقيقي عن حماية المقبرة؟

من الإنصاف الاعتراف بأن الحماية جاءت من ثلاثة أطراف:

1. المفتشون المصريون (سامي جبرة،) ورئيس العمال (حسن عبد الرسول) ،ومأمور مركز الأقصر ومسؤول الارتباط الحكومي(شحاتة باشا). فهم كانوا حاضرين بشكل دائم.

2. مرقص باشا سميكة: الذي قاد حملة الضغط لإعادة السيطرة المصرية على المقبرة.

3. اللورد كارنارفون: المموّل، الذي كان أكثر التزامًا باللوائح من كارتر نفسه.

لكن مرقص باشا يبقى الحلقة الوطنية الأهم في حماية المقبرة.

تاسعًا: لماذا عاد كارتر للعمل بعد إيقافه؟

عاد في عام 1925م بعد:
• تدخل سياسي بريطاني،
• إبرام “اتفاق مُصالحة”،
• تعهده بعدم تجاوز اللجنة العليا مرة أخرى،
• طلب الحكومة المصرية إنهاء الأزمة للحفاظ على العلاقات الدولية.
عمل كارتر في المقبرة حتى 1932م، لكن تحت إشراف مصري صارم.
عاشرًا: التقييم العلمي اليوم – ماذا نستنتج؟
بعد مرور قرن على الاكتشاف، تتفق الدراسات الحديثة على:
✔كارتر تجاوز القواعد وفتح المقبرة سراً.هذا ثابت بالوثائق.
✔أخذ قطعًا صغيرة بالفعل.هذا ثابت عبر الرسائل والتحف المستردة.
✔لم يسرق الكنوز الكبرى.المقبرة كاملة تقريبًا.
✔إيقافه عن العمل كان مبرّرًا.ليس فقط بسبب “الخلاف الإداري”؛ بل بسبب شبهات موثّقة.
✔مرقص سميكة باشا لعب دورًا أساسيًا في إيقاف التجاوزات: وهو يستحق مكانة واضحة في تاريخ حماية آثار مصر.

خلاصة موسّعة

كانت قصة هوارد كارتر واحدة من أعظم قصص الاكتشاف الأثري في تاريخ الإنسان، لكنّها في الوقت نفسه تكشف عن جوانب مُظلمة من العلاقة بين البعثات الأجنبية والدولة المصرية في مطلع القرن العشرين.

لقد كان كارتر عالمًا بارعًا، لكنه أيضًا مارس سلوكيات غير قانونية بمقاييس عصره، وأظهرت الوثائق الحديثة أنه احتفظ بقطع صغيرة من المقبرة، وفتح أبوابًا دون إذن، وتعمّد تهميش الإشراف المصري.

 

 

أما مرقص باشا سميكة فكان واحدًا من أهم الأصوات المصرية التي قاومت التجاوزات، وكان له دور حاسم في:إيقاف العمل بالمقبرة،وحماية محتوياتها،وإعادة السيطرة المصرية على أهم اكتشاف أثري في العصر الحديث.

وهكذا، فإن الجدل حول كارتر ليس مجرّد قصة عن سرقة آثار، بل هو درس في السيادة الوطنية، والحق في التراث، وصراع طويل بين المعرفة والاستعمار.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى