لم يكنْ أحدٌ في مهارة العمِّ “نصر الله” النجَّار ..فما إن هبطَ إلى قريتنا المختبأة بين الأشجارِ العالية في أحضان النيل إلا وقد عرفنا السرورَ والصَّخَب ..وسرعان ما تحولت ورشة نجارته إلي مقصدٍ لكل أهلِ القرية كباراً وصغاراً ،فهو لم يكن مجرَّدَ نجارٍ ماهرٍ يعيدُ بيديه القويتين – رغم تقدُّم سنِّه – ما أهملناه طويلاً من كراسٍ قديمة ومناضد وجذوعِ أشجار بل كان يبتكر أشياء تشبه التحفَ الثمينة كرفوف الراديو وحمَّالات آنية المطابخ وكراسي الحمّام الصغيرة التي كانت النساء تُفتن بها …
لم يسأله أحد من أين أتي ولا ما هي قصته ؟! إلا سؤالاً عابراً لمجرد الائتناس والتقرُّب إليه ..كان يصنع دراجاتٍ خشبية ذات ثلاثِ عجلاتٍ لتعليم الأطفال المشي ويرفض أخذ أجرِه مُتعللاً بأنها من بقايا خشبٍ قديم ،حتي استحوذَ علي قلوب القرية جميعها نساءً ورجالاً ..وشهدت ليالي الجمعة الكثيرَ من الأُنس الذي تثيرُه سحاباتُ دخانٍ أزرق ينطلق من نافذة العم “نصر الله” مصحوبة بضحكاتِ رجال القرية السَّاهرين معه حول أنفاس المُخدِّر ..
لم تكن ورشته التي يبيتُ في إحدي غرفها الداخلية تخلو من الزوَّار علي مدار اليوم إلا عندما يُغلق نافذته المطلة علي الشارع ..وقتها فقط يعلم الجميع أنه قد خلد لبعض الراحة ولا يجرؤ أحدهم علي طرقِ بابه ،إذ يبدو وقتها مُنحرفَ المزاج في هيئةٍ سرعان ما تجلب اعتذارهم الحارَّ علي الإتيان في ذلك الوقت .
وكما جاء رحل ..تاركاً الكثيرَ من التساؤلات التي اتهمه بعضُها بأنه مجرمٌ عتيد كان يختبيء لوقتٍ معلوم ،وذهب البعض إلي أنه هاربٌ من ثأرٍ ..أو غارمٌ فرَّ من دَيْن ثقيلٍ ..إلى آخر تلك التخرُّصات التي لم تُجب عن سر اختفائه .
بعد أيامٍ قليلة بدأت تصدر من بيوتِ القرية صرخات مكتومة ونساء يرتدين السواد ..وتهامست “قابلةُ القرية” عن نساءٍ حملن سِفاحاً ..وفتيات فقدن عذريتهن ..ورجال استودعوا “نصر الله” رؤوس أموالهم ..بل وعجائز تركن مصاغهن عنده خشيةَ السرقة أو طمع ذوي القُربى ..غير أن أحدا لم يفتح فمه بكلمةٍ ..كانت الكراسات التي وجدوها في أدراج “تزجته” الضخمة والتي تناثرت أوراقها في شوارع القرية وأغرقتها تحوي الكثيرَ من الأسرار التي تسببَّ شيوعها في عداواتٍ ضارية ومعارك لا تنتهي بالفؤوس والهِراوات الغليظة بين رجال القرية !!
رحل “نصر الله” وترك البلدة غارقةً في صراعات لا تنفضُّ بين الجيران و أبناء العمومة ،وحتي بين أبناء البيت الواحد !!
إلي أن نسي الناسُ الرجلَ الهارب وقد ابتلعتهم خصوماتٌ و كراهية لذويهم ..باتت نيرانُها راسخةً في النفوس .
“رائد”