ثلاثة عقود من المأزق.. سلاح حزب الله من المقاومة إلى تهديد الدولة اللبنانية

منذ تأسيسه عام 1982 كاستجابة مباشرة للاجتياح الإسرائيلي، لم يتوقف حزب الله عن كونه اللغز الأعقد في المعادلة اللبنانية.
فقد نجح الحزب في بناء توازن فريد ومعقد يجمع بين امتلاك ترسانة عسكرية متطورة خارج سلطة الدولة، وقاعدة شعبية واسعة، ونفوذ سياسي وبرلماني رصين.
هذا التوازن الهش، بين القوة العسكرية والتمثيل السياسي، حوّل ملف سلاح الحزب إلى قضية مركزية لا تهدأ، مثيرة جدلاً داخلياً وإقليمياً ودولياً على حد سواء، ليصبح عنواناً للصراع الدائم بين مفهوم السيادة الوطنية والمصالح الإقليمية المتشابكة.
جذور الأزمة
تعود الجذور القانونية لأزمة سلاح حزب الله إلى اتفاق الطائف عام 1989، الذي أنهى الحرب الأهلية. الاتفاق نص بوضوح على حل جميع الميليشيات اللبنانية وتسليم أسلحتها للدولة، لكنه منح استثناءً صريحًا لحزب الله بحجة أنه قوة “مقاومة” ضد الاحتلال الإسرائيلي في الجنوب اللبناني.
هذا الاستثناء وضع لبنان على طريق مزدوج: دولة تمتلك جيشًا رسميًا، وإطارًا سياسيًا يواجه حزبًا مسلحًا يبرر وجود ترسانته العسكرية بـ “الضرورة الوطنية والمقاومة”.
وبعد الانسحاب الإسرائيلي من معظم الأراضي اللبنانية عام 2000، بدأ المبرر الأصلي لاستمرار هذا السلاح يبهت، لتتصاعد الأصوات اللبنانية مطالبة بدمجه في الجيش، وهو ما قابله الحزب بالرفض، مؤكدًا استمرار الاحتلال الجزئي لمزارع شبعا وتلال كفرشوبا، واعتباره التخلي عن السلاح بمثابة تخلٍ عن وسيلة حماية وطنية.
قرارات أممية مُعطَّلة.. من 1559 إلى 1701
في السنوات التالية، تحول سلاح الحزب إلى ملف دولي مع تصاعد الضغوط لتنفيذ قرارات مجلس الأمن، بدءًا بالقرار 1559 الصادر عام 2004، الذي دعا إلى نزع سلاح جميع الميليشيات اللبنانية والأجنبية.
إلا أن هذا القرار لم يجد طريقه للتطبيق بسبب الانقسامات السياسية الداخلية الحادة، والدعم الإقليمي الإيراني والسوري الذي حظي به الحزب، والذي اعتبر وجوده العسكري ضروريًا لمواجهة إسرائيل.
وتفاقم الموقف مع صدور القرار 1701 عقب حرب تموز 2006، والذي نص صراحة على بسط سيطرة الحكومة اللبنانية على كامل الأراضي ومنع تداول الأسلحة دون موافقة الدولة، مع انتشار قوات الحكومة و”اليونيفيل” في الجنوب.
ورغم أهميته، لم يحقق القرار اختراقًا حقيقيًا في ملف نزع السلاح، وظل الحزب يحتفظ بوجوده العسكري، مُكرسًا مبدأ أن الدولة تطالب بما لا تستطيع تنفيذه على الأرض.
2008: اتفاق الدوحة يرسخ “الخط الأحمر”
وصلت الأزمة الداخلية إلى ذروتها في عام 2008، عندما حاولت حكومة فؤاد السنيورة تفكيك شبكة الاتصالات الخاصة بالحزب.
جاء رد الحزب سريعًا وعنيفًا؛ حيث سيطر مقاتلوه على بيروت الغربية خلال ساعات، في مشهد أعاد للأذهان فصول الحرب الأهلية.
انتهت الأزمة بتوقيع اتفاق الدوحة، الذي كرس عمليًا معادلة جديدة أصبحت بموجبها ترسانة حزب الله “خطًا أحمر”، مقابل مشاركة موسعة للحزب في السلطة التنفيذية، ليجسد هذا المشهد التوازن الهش بين الدولة والحزب المسلح.
سوريا والتحول الإقليمي: السلاح يتجاوز الحدود
مع اندلاع الحرب في سوريا عام 2011، دخل سلاح الحزب مرحلة جديدة وأكثر تعقيدًا. فمشاركة الحزب علنًا في القتال إلى جانب نظام الأسد، كانت المرة الأولى التي يُستخدم فيها السلاح خارج الحدود اللبنانية بشكل علني.
هذه الخطوة لم تعزز نفوذ الحزب الإقليمي فحسب، بل جعلت أي حديث عن نزع السلاح أكثر تعقيدًا، إذ تحول السلاح إلى جزء من شبكة نفوذ إقليمية تمتد من طهران إلى بيروت مروراً بدمشق وبغداد، ما جعل محاولة نزعه تصطدم مباشرة بالمصالح الإيرانية.
جبهة أكتوبر 2023 والضغط الدولي غير المسبوق
في أكتوبر 2023، افتتح حزب الله جبهة دعم لغزة، ما أعاد الملف العسكري للحزب مجددًا إلى الصدارة.
إلا أن التطور الأهم جاء في 27 نوفمبر 2024 بتوقيع اتفاق وقف إطلاق النار الذي نص على انسحاب الحزب من معظم المواقع جنوب الليطاني وتسليمها للجيش اللبناني.
هذا الاتفاق أوجد فرصة غير مسبوقة للحكومة اللبنانية لمواجهة مسألة نزع السلاح، خاصة مع تصاعد الضغط الأمريكي والدولي، وظهور تغييرات إقليمية أضعفت موقع الحزب بعد الضربات التي تلقاها، والأهم هو سقوط حليفه الاستراتيجي نظام بشار الأسد في سوريا.
شهد النصف الأول من عام 2025 زيارات متكررة لمبعوثين أمريكيين، أبرزهم توماس باراك، الذي حمل خارطة طريق شاملة طالب بموجبها الحكومة اللبنانية بإصدار قرار رسمي بنزع سلاح الحزب قبل نهاية العام، وربط استمرار الدعم المالي والأمني بهذا الالتزام.
ورغم تجاوب الحكومة الرسمي، حذّر باراك من أن أي تأخير سيؤدي إلى تعليق المساعدات واستمرار الضربات الإسرائيلية.
الحزب يرفض
في مواجهة هذا الضغط الدولي، أصدر الحزب بيانات متشددة أكد فيها أن سلاحه “ليس مطروحًا للتفاوض” وأن وظيفته كمقاومة مستمرة طالما بقي التهديد الإسرائيلي قائمًا.
وفي المقابل، بدأت الحكومة اللبنانية مناقشة خطة لحصر السلاح بيد الدولة. ورغم مطالبة البعض بالمضي قدمًا في الإجراءات، حذّر طيف واسع من اللبنانيين من أن أي محاولة لفرض نزع السلاح بالقوة قد تؤدي إلى انقسام في المؤسسة العسكرية أو إلى تمرد شعبي يهدد الاستقرار الداخلي.



