تقارير وتحليلات
العبور العظيم.. 52 عامًا على نصر أكتوبر الذي غيَّر وجه التاريخ

تمر اليوم اثنان وخمسون عامًا على السادس من أكتوبر عام 1973، تاريخ العبور العظيم، حين استعادت القوات المسلحة المصرية الأرض والكرامة، وحطمت أسطورة “الجيش الذي لا يُقهر”، مؤذنة ببدء مرحلة جديدة من السلام والتنمية في المنطقة.
إن حرب أكتوبر 1973 لم تكن مجرد معركة عسكرية، بل كانت ولا تزال أحد أهم وأعظم الأحداث التاريخية في العصر الحديث، بما أحدثته من تحولات سياسية واستراتيجية وعسكرية عميقة، وامتدت تداعياتها لتغير مفاهيم القوة حول العالم، وتأتي نتائجها لتخالف كل التوقعات التي كانت تُرَجِّح التفوق الإسرائيلي.
من “اللا سلم واللا حرب” إلى العبور
تعود البداية إلى ما بعد هزيمة 1967 بعام تقريبًا، حين صدرت الأوامر من الرئيس الراحل جمال عبد الناصر بالبدء في التخطيط للعملية الهجومية لاقتحام قناة السويس وتحرير سيناء. سبقت ذلك سنوات ست من حرب الاستنزاف، التي لم تكن مجرد فترة انتظار، بل كانت ميدانًا لاكتساب الخبرات القتالية وصقل مهارات الجندي المصري، في وقت كانت فيه إسرائيل تُشيد تحصيناتها المنيعة المعروفة بـ خط بارليف. كانت حرب الاستنزاف هي المرحلة التمهيدية التي وضعت الأساس الصلب للعبور.
العبقرية المصرية: حلول إبداعية لتحديات مستحيلة
كانت التحديات التي واجهت المخططين المصريين ضخمة، تتراوح بين السواتر الترابية الشاهقة وأنابيب النابالم القاتلة وخط بارليف الحصين. لكن العبقرية المصرية أوجدت حلولًا مبتكرة أدهشت العالم.
يكشف الخبير العسكري اللواء سمير فرج، في مقال سابق، عن لمحات من هذا التخطيط الاستراتيجي الذي حوّل المعوقات إلى نقاط قوة:
هدم الساتر الترابي: جاءت فكرة المهندس العسكري المقدم باقي يوسف زكي باستخدام المضخات المائية – التي كانت تُستخدم في بناء السد العالي – لشق الساتر الترابي على الضفة الشرقية للقناة. كانت هذه الفكرة المائية البسيطة هي مفتاح العبور الأول.
تخطي أنابيب النابالم: تم التخطيط لتقدم مجموعات خاصة من الصاعقة المصرية قبل بدء الهجوم لسد أنابيب النابالم أو تفجير خزاناتها، لإبطال مفعول هذا السلاح الردعي.
اقتحام خط بارليف: تم تكوين مجموعات قتال خاصة ومُدربة تدريبًا عاليًا لمهاجمة وتدمير كل نقطة دفاعية من نقاط خط بارليف الحصينة على حدة.
الجندي المصري: العامل الجديد في حسابات القوى
لعل المفاجأة الاستراتيجية الأهم في حرب أكتوبر لم تكن التوقيت أو اختيار يوم الغفران، بل كانت الجندي المصري نفسه. يؤكد اللواء سمير فرج أنه في مناظرة متلفزة مع الجنرال الإسرائيلي شارون عن حرب 1973، سُئل شارون عن مفاجأة الحرب الحقيقية، فكان رده الصادم:
“المفاجأة الحقيقية في حرب أكتوبر 1973، كانت الجندي المصري الذي وجدته يحارب أمامي في عام 1973، لم يكن نفس الجندي المصري الذي حاربته في عام 1967، أو حتى عام 1956”.
كان الجندي المصري في 1973 مختلفًا؛ ذو تأهيل علمي عالٍ، بروح معنوية في السماء، وإيمان بالنصر تجاوز كل الحسابات. يروي شارون مثالًا شخصيًا: عند قيادته لسرية دبابات نحو الدفرسوار، ظهر أمامه فجأة سبعة من “الكوماندوز” المصريين (قوات الصاعقة). ورغم أن ذلك يعني هلاكهم عسكريًا، إلا أن هؤلاء الأبطال أصروا على تحطيم سرية الدبابات الإسرائيلية كاملة قبل أن ينالوا الشهادة.
نتيجة لتفوق المقاتل المصري، أضافت المعاهد العسكرية والاستراتيجية حول العالم بندًا جديدًا لمقارنة القوات، هو حساب “النوعية القتالية”، أي الفرد المقاتل، وهو العامل الذي كان غائبًا عن التقديرات الاستراتيجية، ما أدى إلى نتائج مغلوطة حول التفوق الإسرائيلي.
النتائج والتداعيات الاستراتيجية: إعادة صياغة الإقليم
على المستوى الإسرائيلي
كما أشار تقرير الهيئة العامة للاستعلامات المصرية، انكسرت النظرية الأمنية الإسرائيلية القائمة على التفوق النوعي، ما أحدث صدمة غير مسبوقة. أدت الحرب إلى تفكك داخل القيادة السياسية والعسكرية، وسقوط أساطير إسرائيلية، وتوقف عجلة الإنتاج نتيجة الاستدعاء العام لقوات الاحتياط.
على المستوى العربي
أعادت الحرب الثقة للشارع العربي والمصري بعد إحباط 1967. أظهرت بوادر عصر جديد من التوافق العربي، وتجلى ذلك في استخدام سلاح البترول لأول مرة كأداة ضغط استراتيجية فعالة. كما أدخلت فكرة المفاوضات المباشرة لأول مرة كطريق لحل الصراع.
الدوافع والأهداف الجوهرية للحرب
تمركزت أهداف مصر الاستراتيجية حول خمس نقاط محورية:
إنهاء الاحتلال: تحرير الأراضي المحتلة (سيناء والجولان) وإنهاء سياسة الأمر الواقع الإسرائيلية.
كسر الجمود السياسي: إنهاء حالة “اللا حرب واللا سلم” المفروضة برعاية القوى العظمى.
استعادة الكرامة: رد كرامة الجندي المصري والعربي وتغيير النظرة السائدة لعدم قدرة الجيوش العربية على القتال.
تحطيم التفوق الإسرائيلي: كسر التفوق العسكري والتقني والتحصينات الاستراتيجية الناتجة عن احتلال الحواجز الطبيعية.
تحرير القرار العربي: تحرير الموقف الأمريكي من الرهن للسياسة الإسرائيلية، خصوصًا بعد مذكرة 1972.
الخداع الاستراتيجي: فن تضليل العدو
كانت خطة الخداع الاستراتيجي المصرية بمنتهى الإتقان، وتضمنت مسارين متوازيين: تجهيز الجبهة الداخلية للعمليات، ودعم خطة التضليل العامة.
إخلاء المستشفيات: “فضيحة التيتانوس”
كان إخلاء عدد من المستشفيات لإعدادها لاستقبال الجرحى أمرًا حيويًا، ولكنه كان سيثير شك المخابرات الإسرائيلية حتمًا. فتم تنفيذ خطة محكمة:
تم تسريح ضابط مجند في السلاح الطبي، وعاد إلى عمله السابق في مستشفى الدمرداش (بجامعة عين شمس).
نشر هذا الطبيب تقريرًا “يكتشف” فيه تلوثًا بميكروب التيتانوس في العنابر الرئيسية.
تداولت وسائل الإعلام “الفضيحة”، وأمرت وزارة الصحة بإخلاء المستشفى وتطهيره.
تم تكرار الأمر في مستشفيات أخرى، وتم نشر صور عمال التطهير.
بحلول الأول من أكتوبر، تم إخلاء العدد اللازم من المستشفيات بالكامل واستعدادها لاستقبال الجرحى دون إثارة أي شبهة.
تأمين المخزون الاستراتيجي: “فضيحة القمح التالف”
توفير المخزونات الكافية من السلع الاستراتيجية (كالقمح والسكر والأرز) كان لا يقل أهمية عن توفير الذخائر. كان استيراد كميات ضخمة من القمح سيُعتبر مؤشرًا على قرب الحرب. تم التغلب على ذلك بالآتي:
سرب جهاز المخابرات العامة معلومات بأن أضرارًا بالغة أصابت مخزونات القمح المحلية نتيجة أمطار وحرائق وفطريات.
تحول الأمر إلى فضيحة إعلامية تداولتها الصحف.
على إثر هذه “الفضيحة”، استوردت مصر الكميات المطلوبة من القمح دون أن تقرأها أجهزة الاستخبارات الإسرائيلية كمؤشر عسكري.
استيراد المضخات: “مشروع الري الزراعي”
كانت مضخات المياه ضرورية لفتح الثغرات في الساتر الترابي. ولإبعاد الشبهات، تم:
سافر مجموعات من مهندسي الزراعة والري وضباط من الدفاع المدني بشكل منفصل إلى ألمانيا وبريطانيا.
تم شراء المضخات الثقيلة ومدافع إطلاق المياه الخاصة بالمطافئ بحجة تأمين وسائل الري اللازمة لتنفيذ مشروع أُعلن عنه في 1972 لزراعة 900 ألف فدان بالخضروات.
وهكذا، كانت حرب أكتوبر 1973 مزيجًا متفردًا من الشجاعة في الميدان والعبقرية في التخطيط والإتقان في الخداع، لتظل رمزًا لإرادة الشعوب في استرداد الحق والكرامة، ودرسًا استراتيجيًا خالدًا في تاريخ الحروب الحديثة.