فنون وثقافةمباشر مصر

قرارات من عهد أحمد بن طولون (254-292هـ\ 868-905م).

د. نورا عبدالمهيمن طاش مفتش اثار بالادارة العامة لوجه بحري وسيناء وعضو اتحاد الأثريين العرب

 

دكتوره / نورا عبد المهيمن طاش

أصبحت مصر بعد قدوم عمرو بن العاص إليها فاتحاً في بداية القرن الأول الهجرى والسابع الميلادى (18هـ\ 639م) جزءاً من عالم عربي إسلامى آخذ في النمو والإتساع حتى بلغ مداه أيام الخليفة الأموى الوليد بن عبد الملك (86-96هـ\ 705-715م).

 

ولما قامت الدولة العباسية ونقلت العاصمة من دمشق إلى بغداد كان هذا إيذاناً ببدء عهد الإنقسام والتفرق بين أنحاء الدول الإسلامية إذ كان قيام العباسيين بمساندة الفرس والخراسانيين ثورة من الفرس أو الإيرانيين ضد أهل الشام الذين قامت على أكتافهم الدولة الأموية وارتفع شأن الفرس في الخلافة الجديدة وأمسكوا بأزمة الأمور.

 

أما مصر فكان ولاتها في عهد الخلفاء الراشدين والأمويين من العرب وأعطى الخلفاء الأمويون لعمالهم على الولايات قسطاً كبيراً من الحرية والإستقلال فظهر في مصر وغيرها من البلاد الإسلامية ولاه لهم سلطان الملوك مثل عمرو بن العاص وعبد العزيز بن مروان في مصر, ومثل زياد بن أبيه والحجاج بن يوسف الثقفى وخالد بن عبدالله القمرى في المشرق ومثل موسي بن نصير في المغرب.

 

وفى العصر العباسي يتغير الحال فالدولة العباسية قامت على أكتاف الفرس ولذا نجد بين ولاة مصر من هم من عناصر فارسية وكان آخر والى عربي على مصر هو عتبة بن اسحق (238-242هـ), على أن الخلفاء العباسيين بدأو يتخذون فرقاً من الجند الأتراك ثم استكثر الخليفة المعتصم منهم وتغلغل نفوذهم في الدولة وتأثرت مصر بما كان يدور في الخلافة فوليها ولاه من الترك كان أولهم “يزيد بن عبدالله التركي 242-253هـ”.

 

وتميز حكم العباسيين في مصر بكثرة تغير الولاة وقد يكون هذا الأمر راجعاً لبعد مقر الخلافة العباسية (بغداد\ سامراء) عن مصر, فلم يأمن الخلفاء أن يتركوا ولاة مصر في الحكم طويلاً لئلا يطمعوا في الإستقلال بها, وقد يكون ذلك راجعاً إلى ضعف الخلافة العباسية وخلفائها بالرغم من مظاهر العظمة الخارجية وخاصة منذ عهد المعتصم ولذلك عنى هؤلاء الخلفاء بتولية ولاة كثيرين في مدد متقاربة قصيرة كيلا يتمكن أحدهم من الإستقلال بها أو التمكين لنفسه فيها, كما استخدموا البريد للتجسس على أعمال هؤلاء الولاة.

 

وكان قد وقع اختيار باكباك على أحمد بن طولون ليكون نائباً عنه في مصر, فقدم أحمد بن طولون إلى وادى النيل سنة 254هـ\ 868م كنائب بسيط عن واليها, ومن المحتمل جداً أنه منذ تلك الساعة كان يفكر في الإستقلال بمصر ولا يتوقع في هذا السبيل الكثير من المصاعب نظراً لما كان يعرفه من ضعف الخلافة العباسية واحتضارها فضلا عن الفوضى بين الجند الترك الذين إلتمسهم العباسيون كقوة جديدة ليحافظوا بها على خلافتهم إلى جانب العرب والفرس كنوع من التوازن بين هؤلاء وهؤلاء حتى أصبحوا في النصف الأخير من القرن الثالث الهجري هم المسيطرين والمتحكمين في كل شئون الدولة.

 

ولقى ابن طولون عند وصوله مصر أحمد بن المدبر عامل الخراج, وشقير الخادم عامل البريد والمعروف أن عامل البريد كان موظفاً في مقر الخلافة أو السلطان ويرحل إلى سائر الأقاليم والولايات ليكون عيناً للحكومة المركزية على الولاة وغيرهم من الموظفين, أما بن المدبر فإنه جاء إلى مصر عاملاً على خراجها وكان ابن المدبر داهية في الحكم ذو سلطان واسع لجأ إلى بعض الأساليب ليزيد الدخل في الميزانية من أجل أن يجمع الأموال الطائلة لنفسه ويقدم الهدايا والعطايا إلى الحكومة المركزية حتى يأمن على مركزه فنراه يغتصب ثروات الأغنياء ويطع في أموالهم وعمد إلى فرض الضرائب منها ضرائب خراجية وهى التي تجبي سنوياً وضرائب هلالية وهى التي تجبي شهرياً ولجأ إلى القسوة في جبايتها مما زاد من بؤس الشعب المصري الذى أصبح ينوء تحت عبء ثقيل من الضرائب وكان مقدراً أن تظل هذه الضرائب الثقيلة حتى يعهد بأمر مالية مصر إلى أحمد بن طولون فيسعى في إلغاء الضرائب التي فرضها بن المدبر وأثقل بها كاهل الشعب المصري.

 

وقدم ابن المدبر للقاء أحمد بن طولون محاطاً بحرسه الذى كان يتألف من مائة غلام امتازو بجمالهم وقوتهم البدنية وحسن هندامهم وإبداع ملابسهم الفاخرة, وقدم إليه هدية من عشرة الآف دينار فرفضها ابن طولون وتعجب ابن المدبر لذلك فإنه لم يتعود قبل ذلك أن ترفض هداياه, فطلب من كاتبه أن يحرر رسالة إلى البلاط في مقر الخلافة ليلفت نظر أولياء الأمور إلى أن مثل ابن طولون لا يجب أن يكون إلا في حاضرة الدولة وضواحيها فلما أستفسر منه عن السبب في ذلك أجاب بأن نفساً ترفض هدية عشرة الآف دينار ليس من الحكمة أن يوكل إليها أمر إقليم بعيد عن الحكومة المركزية. إلا أن ابن طولون لم يلبث أن بعث إلى ابن المدبر يبلغه بأنه يسره قبول المائة حارس الذين يحيطون به, فاضطر إلى التنازل عنهم وتحدث إلى كاتبه قائلاَ أن صفة أخرى تظهر في أحمد ابن طولون فهو يرفض المتاع والمال ولكنه يطلب الحرس من الرجال الذين يستطيعون الدفاع عنه, ومنذ تلك الساعة بدأ النضال بين ابن طولون وابن المدبر الذي انتهي بفوز ابن طولون.    

 

ومهما يكن من الأمر فإن سلطان ابن طولون ونفوذه بدأ في الزيادة واستطاع فرض سلطانه على ولاة الأقاليم في مصر والتغلب على بعض الصعاب الداخلية مثل ثورة “أبغا الأصغر” التي قامت بعد قدوم ابن طولون إلى مصر ببضعة شهور, فأرسل إليه بن طولون جيشاً هزمهم وحمل رأسه إلى الفسطاط , بالإضافة إلى بعض الإضطرابات والفتن التي قامت في مصر العليا على يد فريق من العلويين ولكنه نجح في إخمادها.

 

وقد حدث في العراق والشام أشياء جعلت الفرصة سانحة لأن يظهر أحمد بن طولون مهارته السياسية ومكنته من تجنيد جيش كبير قام عليه سلطانه وسلطان ابنه خمارويه من بعده.

 

ومن حسن حظ ابن طولون انه بعد قتل باكباك فقد تم رد جميع ما كان بين يديه إلى “يارجوخ” حمو ابن طولون, فكتب إليه: ” تسلم من نفسك إلى نفسك, وزاده الأعمال الخارجة عن قصبة مصر وكتب إلى إسحق بن دينار وهو يتقلد الأسكندرية أن يسلمها لأحمد بن طولون فعظمت بذلك منزلته”.

 

ونلاحظ أنه منذ العصر اليوناني في مصر حتى قيام الدولة الإخشيدية في مصر الإسلامية في القرن الرابع الهجرى كانت الأسكندرية تعتبر في معظم الأحيان جزءاً مستقلاً عن مصر أو عملاً قائماً بذاته.  

 

وبهذا استطاع بن طولون بعد خمس سنوات منذ أتى سنة 254هـ\ 868م نائباً للوالي أن يضم لنفسه إدارة الخراج في البلاد وأن يكون أميراً على مصر كلها بما فيها الإسكندرية وبرقة وأن يكون جيشاً وأن يبني عاصمة جديدة له ولم تكن هذه المدة عصر سلام داخلى شامل فقد لقي ابن طولون في مصر العديد من المتاعب كما ذكرنا سابقاً.  

 

وقد وضحت نية أحمد بن طولون في توريث ملكه لأولاده من بعده فنراه يستخلف ابنه الأكبر العباس على مصر حين خرج إلى الشام والثغور في سنة 264هـ, وقبل أن يسير إلى الشام في سنة 269هـ حين وردت إليه موافقة الخليفة العباسي على السير إلى مصر نراه يستخلف خمارويه على مصر ويترك معه جماعه من شيوخ القواد لمشاركته الحكم.

 

غير أن رغبته في توريث ملكه وضحت تماماً حين عاد من بلاد الشام مريضاً محمولاً إذ أحس بإقتراب منيته ولذا نراه يبايع ابنه أبا الجيش خمارويه بولاية الأمر من بعده ولم يكن ينقص ذلك الأمر إلا أن يستوفى الشكل وأن توافق الخلافة العباسية على مبدأ التوريث, وكانت مبادئ التفاهم بين الموفق وابن طولون تمهد لإقرار الأمر الواقع لولا أن المنيه عاجلته قبل أن يستكمل الناحية الشكلية في استقلاله بالملك وتوريثه لأبنائه من بعده.

 

خاتمة البحث

 

يبقي أحمد بن طولون مؤسس الدولة الطولونية في مصر هو مؤسس أول دولة عربية إسلامية في مصر, وأول دولة مستقلة في مصر الإسلامية العربية، بل أول دول مستقلة في مصر منذ انتصار أغسطس قيصر على كليوباترا في موقعة أكتيوم سنة 31 ق.م واستيلائه على مصر سنة 30 ق.م وقضائه نهائياً على دولة البطالمة فيها.  

 

مراجع الدراسة:

 

*- مفتشة آثار إسلامية بوزارة السياحة والآثار.

 

 ابن سعيد الأندلسي( علي بن موسى بن محمد ت 685هـ/ 1286م): المغرب في حلى المغرب, الجزء الأول من القسم الخاص بمصر, تحقيق زكي محمد حسن, شوقي ضيف, سيدة كاشف, الهيئة العامة لقصور الثقافة, القاهرة, 2003, سلسلة الذخائر, رقم 89.  

 

البلوي (أبى محمد عبدالله بن محمد المديني البلوي): سيرة ابن طولون, تحقيق: محمد كرد على, المكتبة العربية, دمشق, 1939م.

 

زيود (محمد أحمد): العلاقات بين مصر والشام في العصرين الطولوني والإخشيدي, دار حسان, دمشق, الطبعة الأولى, 1989.

 

عزب (خالد): دار السلطنة في مصر, العمارة والتحولات السياسية, المجلس الأعلى للثقافة, القاهرة, 2007.

 

كاشف (سيدة إسماعيل): أحمد بن طولون, أعلام العرب, 48, المؤسسة العربية للتأليف والترجمة والنشر, القاهرة, الطبعة الأولى, 1965م.  

 

كاشف (سيدة إسماعيل): مصر في عصر الإخشيديين, مطبعة جامعة القاهرة, 1950م.

 

الكندي (أبو عمر محمد بن يوسف بن يعقوب ت 350هـ\ 981م): الولاة والقضاة, صححه رفن كست, طبع بمطبعة الآباء اليسوعيين, بيروت, لبنان, 1908م.

 

المقريزي( تقي الدين أحمد بن علي بن عبد القادر ت 845هـ\ 1441م): كتاب المقفى الكبير, تحقيق: محمد اليعلاوي, دار الغرب الإسلامي, بيروت, لبنان, الطبعة الأولى, 1998.  

 

مؤنس (حسين): تاريخ مصر من الفتح العربي إلى أن دخلها الفاطميون, نشر ضمن: تاريخ الحضارة المصرية, أعده نخبة من العلماء, المجلد الثاني, وزارة الثقافة والإرشاد القومي, مصر.

نصار (حسين): الثورات الشعبية في مصر الإسلامية, الهيئة العامة لقصور الثقافة, القاهرة, الطبعة الثانية, 

Hassan, Z.M., Les Toluide’s Etude de l Egypte Musulmane, a la fin du lx siècle, Paris, 1933

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى