تقارير وتحليلات

تصاعد المخاوف في بريطانيا بعد هجوم مانشستر ضد كنيس يهودي.. وأوروبا تخشى من معاداة السامية

 

أثار الهجوم الدموي الذي وقع أمام كنيس يهودي في مدينة مانشستر البريطانية صدمة واسعة داخل البلاد وخارجها، لمجرد أنه لم يكن حادثًا معزولًا بقدر ما شكّل مؤشرًا جديدًا على تصاعد التوترات العرقية والدينية، وازدياد حدة العداء لليهود في أوروبا، بالتزامن مع الحرب الإسرائيلية في غزة.

وقد تحول الاعتداء، الذي أسفر عن مقتل شخصين وإصابة أربعة آخرين، إلى محطة فارقة في النقاش العام حول الأمن، والتعايش المجتمعي، ومستقبل العلاقة بين الجاليات المختلفة في بريطانيا.

منذ اللحظة الأولى، بدا واضحًا أن الصدمة لا تقتصر على حصيلة الضحايا، بل تمتد إلى التداعيات السياسية والاجتماعية التي خلّفها الهجوم. فقد تصاعدت المخاوف داخل المجتمع اليهودي، حيث اعتبر الكثيرون أن استهدافهم لمجرد هويتهم الدينية يعيد إلى الأذهان أسوأ مراحل العداء لليهود في أوروبا.

وأشارت تقارير إعلامية إلى أن العديد من العائلات اليهودية في مانشستر ولندن باتت تتجنب الظهور بالرموز الدينية التقليدية مثل “الكيباه”، خشية أن تتحول إلى أهداف سهلة لأي هجوم.

على المستوى السياسي، فرضت الحادثة نفسها على جدول أعمال الحكومة البريطانية، إذ اضطر رئيس الوزراء كير ستارمر إلى قطع زيارته الخارجية والعودة لعقد اجتماع طارئ لمجلس الوزراء.

وبحسب ما أعلن، فإن بريطانيا ستشهد تشديدًا واسعًا للإجراءات الأمنية حول المعابد اليهودية والمؤسسات التعليمية والثقافية المرتبطة بالجالية، بميزانية إضافية قُدرت بـ70 مليون جنيه إسترليني.

ومع ذلك، بدا القلق أكبر من أن يبدده الوجود الأمني، فالمخاوف تتعلق بتنامي بيئة عدائية تغذيها خطابات الكراهية على وسائل التواصل الاجتماعي والمظاهرات السياسية المحتدمة حول الحرب في غزة.

وفي الشارع البريطاني، انقسمت الآراء بين متعاطفين مع الجالية اليهودية، محذرين من مخاطر “تكرار مشاهد أوروبا في الثلاثينيات”، وبين أصوات أخرى تربط هذه الاعتداءات مباشرة بما وصفوه بـ”سياسات إسرائيل في غزة”، معتبرين أن الحكومة البريطانية تدفع ثمن انحيازها الواضح لتل أبيب.

هذا الانقسام ألقى بظلاله على النقاش العام، حيث تحولت الحادثة إلى ساحة صراع خطابي بين التيارات اليمينية واليسارية، وبين مؤيدي إسرائيل وأنصار فلسطين.

أما في الأوساط الأمنية، فقد دقت الحادثة ناقوس الخطر من احتمالية دخول بريطانيا في مرحلة جديدة من “الهجمات الفردية”، التي ينفذها أشخاص مندمجون داخل المجتمع لكنهم مدفوعون بأفكار متطرفة أو بانتقام سياسي. وأشار خبراء أمنيون إلى أن بساطة أدوات الجريمة، سواء عبر استخدام سيارة أو سكين، تجعل من الصعب على الأجهزة منع مثل هذه العمليات مسبقًا، مما يضع ضغوطًا هائلة على أجهزة الاستخبارات والشرطة.

من جهة أخرى، سلّطت الحادثة الضوء على هشاشة العلاقات بين الجاليات في المدن البريطانية الكبرى، خصوصًا في مانشستر ولندن حيث يعيش مجتمعان يهودي ومسلم كبيران جنبًا إلى جنب. فبينما عبّر قادة الجالية المسلمة عن إدانتهم الشديدة للهجوم ورفضهم لأي ربط بين الإسلام والعنف، يخشى مراقبون من أن يستغل اليمين المتطرف هذه الحوادث لتأجيج خطاب الكراهية ضد المسلمين والمهاجرين.

وبذلك، يبدو أن الحادثة لم تستهدف اليهود فقط، بل هددت بنسف التعايش الذي تبني عليه بريطانيا جزءًا من صورتها كدولة متعددة الثقافات.

وفي إسرائيل، لم يتأخر المسؤولون في توظيف الهجوم سياسيًا، إذ حمّل رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو السلطات البريطانية مسؤولية “التهاون في مواجهة التحريض ضد اليهود”، بينما شدد وزير الخارجية جدعون ساعر على أن “الضعف في مواجهة الإرهاب لا يجلب إلا المزيد منه”. هذه التصريحات ضاعفت الجدل داخل بريطانيا، حيث رأى البعض فيها محاولة إسرائيلية للضغط على الحكومة البريطانية من أجل تشديد سياساتها ضد الأصوات المناهضة للحرب في غزة.

أما على المستوى الشعبي، فقد برزت تداعيات أخرى لا تقل خطورة، إذ أظهرت تقارير ميدانية أن المظاهرات المؤيدة لفلسطين لم تهدأ بعد الحادث، بل ازدادت كثافة في بعض المدن، بما في ذلك مانشستر نفسها. ورفع المتظاهرون شعارات تنتقد ما وصفوه بـ”تسييس دماء الضحايا اليهود” لصالح دعم إسرائيل، فيما عبّر آخرون عن خشيتهم من أن تؤدي هذه الأجواء إلى فرض قيود إضافية على حرية التعبير والتظاهر.

من الناحية التاريخية، يرى محللون أن هجوم مانشستر قد يشكل نقطة تحول مشابهة لما حدث بعد اعتداء هاله في ألمانيا عام 2019، حين أجبرت الصدمة الحكومة الألمانية على إعادة صياغة استراتيجياتها في مكافحة معاداة السامية.

ومع ذلك، يختلف السياق البريطاني بسبب وجود أزمة سياسية عميقة مرتبطة بالموقف من الحرب الإسرائيلية على غزة، ما يجعل معالجة التوتر أكثر تعقيدًا.

في المحصلة، لم يكن هجوم مانشستر مجرد عملية دامية انتهت بمقتل المنفذ، بل تحوّل إلى حدث مفصلي أعاد فتح ملفات الهوية والتعايش والأمن في بريطانيا. وبقدر ما فجّر من مخاوف داخل الجالية اليهودية، فقد زاد أيضًا من الاحتقان بين مختلف المكونات المجتمعية، في وقت يحتاج فيه المجتمع البريطاني إلى خطاب يوحده بدلًا من أن يزيده انقسامًا. لكن المؤكد حتى الآن أن بريطانيا بعد هذا الهجوم لن تكون كما كانت قبله، سواء في سياساتها الأمنية أو في علاقاتها الداخلية بين مكوناتها الدينية والعرقية.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى